رأي

حديث السوشيال- في بيتنا راديو

بقلم: الإعلامي محمد الشناوي

منذ سنوات الطفولة الأولى، نشأت في أسرة يلتف أفرادها حول الراديو الذي انفرد في الخمسينيات بالمنظومة الإخبارية والترفيهية والدينية، ليستمع الكل أو البعض لمادته المفضلة. فكانت أمي رحمها الله تتابع البرامج الصباحية مثل “طريق السلامة”، “كلمتين وبس”، و”ربات البيوت”.

وكان أبي رحمه الله من أوائل المصريين الذين اشتروا جهاز راديو كبير ماركة فيليبس  بمجرد أن بدأت الإذاعة المصرية في مايو عام 1934، وكان يدعو أصدقاءه في الخميس الأول من كل شهر ليسهروا معه، ويستمتعون بالاستماع إلى حفلات كوكب الشرق السيدة أم كلثوم، التي برع في تقديمها أصوات إذاعية لم تتكرر مثل جلال معوض وفهمي عمر وأحمد فراج وصالح مهران.

أما أنا وأخواتي البنات فكنا ننتظر الإذاعي الكبير محمد محمود شعبان المشهور باسم “بابا شارو” في أحاديث الأطفال 3 مرات في الأسبوع، والذي تمكن بصوته وإلقائه وحواره مع الطيور والحيوانات في جعلنا نتخيل الصور التي نجح في تقديمها وكأننا نشاهد التليفزيون الذي لم نشاهده إلا بعد عام 1960، وكنا نردد أغاني مثل “عيد ميلاد أبو الفصاد” وأغنية “يا عسكري يابو بندقية يا حارس الأمة المصرية”.

وفي مرحلة تالية كانت الأسرة كلها تجتمع في الخامسة والربع مساءً حول جهاز الراديو لمتابعة المسلسل الإذاعي الذي برع مخرجو الإذاعة من خلاله في إثارة خيال المستمع، من خلال أداء الممثلين والممثلات والمؤثرات الصوتية، ليشكل كل مستمع صورته الخاصة عن شكل وشخصية وتعبيرات كل مشارك في الحبكة الدرامية، وذلك في مسلسلات مثل “سمارة”، و”ريا وسكينة”، و”موهوب وسلامة”، و”شنبو في المصيدة” وغيرها.

ثم كانت برامج أخرى مثار اهتمام الأسرة مثل “جرب حظك” للراحل الموهوب طاهر أبو زيد، و”على الناصية” كل جمعة مع الإذاعية المخضرمة السيدة آمال فهمي.

وكانت علاقة الأسرة بالراديو تتوثق أكثر وأكثر خلال شهر رمضان مع المسحراتي وأذان الفجر، ومتابعة أحاديث الصيام، والاستماع لتلاوة القرآن قبل مدفع الإفطار وأذان المغرب، ثم أدعية الشيخ سيد النقشبندي، وفوازير رمضان ومسلسلاته الإذاعية، وأشهرها “ألف ليلة وليلة”، وإبداعات طاهر أبو فاشا وإخراج محمد محمود شعبان، والحبكة الفنية في جعل الدراما الإذاعية متجسدة كشريط سينمائي في مخيلة المستمعين.

وبطبيعة الحال زاد اهتمام والدي واهتمامي بمتابعة نوع آخر من البرامج مع توسع إرسال إذاعة صوت العرب التي ترأسهأ أحمد سعيد، أشهر مذيع في عهد الرئيس عبد الناصر، بصوته الجهوري الحماسي، مع افتتاحية يومية بصوت الإذاعي الرائد حسني الحديدي: “هذا صوت العرب الناطق بلسانكم المعبر عن وحدتكم يأتيكم من قلب الأمة العربية النابض.. من القاهرة” مصحوبة بنشيد “أمجاد يا عرب أمجاد”، الذي غناه كارم محمود، وتوسع إرسالها من 7 ساعات في عام 1954 إلى 21 ساعة في عام 1990.

وشهدت السنوات الأولى لها تركيزًا على التحرر من الرجعية والاستعمار ومناصرة نضال الشعوب العربية من أجل الاستقلال، وكان من أشهر برامج صوت العرب “أكاذيب تكشفها الحقائق” الذي قدمه أحمد سعيد، و”الخليج والجزيرة” لسعد غزال، و”معهد على الهواء” لعبد الوهاب قتاية، و”المغرب العربي” لمحمد أبو الفتوح، بالإضافة إلى برامج “حوار مع مستمع”، و”حوار مفتوح”، وغيرها من البرامج السياسية.

ثم تميزت بإبداعات فنية قادها الراحل العظيم الأستاذ وجدي الحكيم ببرامج منوعات شيقة مثل “ليالي الشرق” الذي بدأ تقديمه حلمي البلك، و”منتهى الصراحة” مع وجدي الحكيم و”من كل قطر أغنية” لتراجي عباس، و”ما يطلبه العرب” لنادية توفيق، و”ألف سلام” لعصمت فوزي، ونمر لرشاد أدهم وتلستار لمحمد مرعي، وتاكسي السهرة لجمال السنهوري وعبد الله قاسم، و”حديث الذكريات” لأمينة صبري، و”من غير مونتاج” لعباس متولي وأماني كامل، و”العالم من خلالهم” لنهى العلمي، و”أضواء على الجانب الآخر” لنجوى أبو النجا، و”أغاني وعجباني” لكامل البيطار.

وسلسلة أسر المنوعات التي تناوبت على تقديم برامج صباحية ناجحة مثل “الحياة والحب والأمل”، كان من أبرزهم محمود سلطان وأماني كامل وعلي سعفان، وسهرة الأحد واللقاء المفتوح، وقائمة طويلة من إبداعات مدرسة صوت العرب في الفنون الإذاعية.

أجواء الإعلام في الطفولة

عندما بلغت سن العاشرة كانت الإذاعة وسيلة أساسية لتعبئة الرأي العام، وذلك في السنوات التي أعقبت ثورة عام 1952، خاصة أثناء العدوان الثلاثي على مصر بعد قرار تأميم قناة السويس في عام 1956، من خلال الأغاني الوطنية والبرامج الخاصة.

وكان والدي من شباب حزب الوفد المتحمس، وشارك في مظاهرات ضد الاحتلال البريطاني، وفلت من قبضة البوليس السري في إحدى المظاهرات بأعجوبة، ولذلك كان متابعا شغوفا لنشرة الثامنة والنصف من البرنامج العام بعد قرآن الثامنة كل مساء، وكان يشرح لي ما كان لا يسمح سني الصغير باستيعابه من تطورات الأحداث.

في الصف الثالث الابتدائي بدأ اهتمام الأسرة وخاصة الوالد بالاستماع إلى خطابات الرئيس جمال عبد الناصر مع خطابه الشهير في السادس والعشرين من يوليو عام 1956: “قرار من رئيس الجمهورية بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية”، وما تلى ذلك من أحداث العدوان الثلاثي.

وكذلك خطاب عبد الناصر الشهير في 9 نوفمبر 1956 في الأزهر، وكلماته التي حشدت مساندة الشعب المصري بل والشعوب العربية كلها ضد العدوان الثلاثي: “لقد فرض علينا القتال أيها الإخوة، ولكن باسم شعب مصر، باسمكم جميعا أعلن للعالم أجمع أنه لن يوجد من يفرض علينا الاستسلام”.

في وسط هذه الأجواء وفي مرحلة تاريخية بالغة الأهمية، أتذكر كيف كنا نتابع البيانات العسكرية من إذاعة القاهرة، ونتابع بطولات المقاومة الشعبية في بورسعيد بينما ندهن زجاج النوافذ باللون الأزرق، ونلصق أشرطة لاصقة للحيلولة دون تناثر قطع الزجاج في حالة وقوع الغارات الجوية، وذلك تنفيذا لتعليمات الدفاع المدني المتوالية عبر موجات الإذاعة، والتي تكررت مع سماع صفارات الإنذار بحدوث غارة جوية، كتلك التي شنتها طائرات العدوان الثلاثي على محطة الإرسال في منطقة أبو زعبل عام 1956.

وحشدت الإذاعة إرادة المقاومة من خلال الأغاني الوطنية مثل أغنية فايدة كامل “دع سمائي فسمائي محرقة”، والأغنية التي جسدت مقاومة شعب بورسعيد للعدوان والاحتلال والتي غنتها شادية من كلمات إسماعيل حبروك وألحان محمد الموجي بعنوان” أمانة عليك أمانة يا مسافر بورسعيد”.

ومن وصف نشرات الأخبار للمظليين البريطانيين في عملية إسقاط فوق بورسعيد من طائرات بمحركات مروحية، أتذكر لوحة رسمتها من خيالي في حصة الرسم بقلم رصاصي غامق لفتت نظر مدرس الرسم، حيث أظهرت تفاصيل باراشوتات يقفز بها المظليون من باب طائرة فوق أرض بورسعيد.

وما أن انسحبت القوات المعتدية وبدأ المرشدون المصريون في إدارة الملاحة عبر قناة السويس حتى ألهبت الإذاعة المصرية مشاعر كل أسرة مصرية بأغاني مثل “يا سايق الغليون” لمحمد عبد المطلب، و”محلاك يا مصري وأنت ع الدفة” لأم كلثوم.

علاقتي الأولى بالميكروفون

وسط هذه البيئة الحماسية، كانت مقررات المدرسة الابتدائية تثير مشاعر الوطنية في الصغار عبر حصص التاريخ التي ركزت على نضال المصريين في مقاومة الحملة الفرنسية ثم الاحتلال البريطاني، وتمجد في شخصيات وطنية مثل أحمد عرابي ومصطفى كامل و الثورة المصرية الأولى عام 1919 ثم ثورة 1952 وشرح مبادئها الستة.

ثم من خلال مادة التربية الوطنية في نهاية المرحلة الابتدائية، وكذلك الإذاعة المدرسية في طابور الصباح، والتي كانت تبدأ بتحية العلم والهتاف لمصر، ثم حكمة اليوم وحديث الصباح وقصائد زجل وشعر.

في الصف السادس كان معلم الفصل شابا مهذبا ودودًا اسمه محمد عبد الجواد، شجعنا على القراءة وقدمنا إلى سلسلة أدب الأطفال للكاتب الشهير كامل كيلاني رائد أدب الطفل، وأسهب في شرح موضوعات كتاب القراءة الرشيدة الذي كان مقررًا دسما، وبرع في تعليمنا قواعد اللغة العربية بأسلوب بسيط تتخلله حكايات طريفة عن اللغة.

وكان يشجعنا على كتابة ما يجول بخاطرنا في حصة التعبير، وكان لي شرف الحصول على إشادات متكررة  بموضوعات التعبير، حتى أنه طلب في نهاية العام الدراسي الاحتفاظ بكراستي لمادة التعبير التي امتلأت بالمواضيع المختلفة، وقدمني لناظر المدرسة الأستاذ محمد مرسي لأكون ضمن فريق الإذاعة المدرسية، التي كنا نقدمها من غرفة خاصة لا نشاهد فيها طابور الصباح، ولكن نحاول التركيز أمام الميكروفون على النطق السليم والأداء بلا رهبة.

وكانت هذه علاقتي الأولى بالميكروفون بعد علاقة وثيقة بالاستماع لبرامج الإذاعة في بيتنا، وهى علاقة زادت توثقا في سنوات الجامعة الأربع في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وصولا إلى رحلة الخمسين عامًا مع الإذاعة والتليفزيون.

في أواخر أيام الصف السادس شكل الأستاذ أحمد شوقي، أستاذ مادة التربية الوطنية، جماعة من التلاميذ سماها “جماعة الوعي القومي”، وكان من بين أعضائها المختارين بعناية جاري وصديق عمري التلميذ النجيب عصام الدين حمدي، الذي برع فيما بعد مع الهيئة العربية للتصنيع كمهندس موهوب.

وضمني إليها الأستاذ شوقي، والذي حول كلمات أغنية عاطفية لنجاة الصغيرة إلى أغنية وطنية تمجد في الرئيس جمال عبد الناصر، كان مطلعها” عاش جمال منقذنا، ومحرر أمتنا، ندعيله بأمانه فليحفظه الله” وتمرن أفراد المجموعة على أداء الأغنية وقدمناها في حفل للمدرسة، ثم تنافسنا أنا وزميلي عصام في تقليد خطابات الرئيس عبد الناصر حتى أجدنا التركيز على طريقته الفريدة في الخطابة.

وشجع ذلك الأستاذ أحمد شوقي فأرسل دعوة إلى المذيعة الشهيرة السيدة آمال فهمي مقدمة برنامج “على الناصية” لزيارة المدرسة، وسجلت مقطعين لي ولصديقي عصام في تقليد الرئيس عبد الناصر، وشرح الأستاذ جهوده في تشكيل جماعة الوعي القومي بمدرسة الجيزة الغربية، وأذيع اللقاء يوم الجمعة التالي وكانت المرة الأولى التي يخرج فيها صوتي من إذاعة القاهرة وأنا في الثانية عشرة من عمري.

للإطلاع على قصة نجاح الإعلامي محمد الشناوي اضغط هنا


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس وجهة نظر الموقع


تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى