رفض الملايين وعالج الفقراء مجانًا.. مصر تودّع “طبيب الغلابة”

علي البلهاسي
قد يُفني العالِم عمره في علمه وعمله أملًا في الحصول على جائزة الدولة التشجيعية أو التقديرية، أو حتى جائزة نوبل.
لكن كل هذه الجوائز تقف عاجزة أمام الجائزة الكبرى التي رصدها الله سبحانه وتعالى لمن أفنى عمره في خدمة الناس والفقراء منهم خاصة، فنال رضا الله والجنة، ولاحقته دعوات الغلابة الذين لم يتخلى عنهم في حياته، فودعوه بمظاهرة حب ووفاء تفوق في قيمتها ملايين الجوائز.
كان هذا واضحًا في حالة الحزن العميقة التي سيطرت على مشاعر المصريين بعد إعلان نبأ وفاة الدكتور “محمد مشالي”، الذي يعرفه الناس بلقب “طبيب الغلابة”، وسبق لقبه اسمه فصار مشهورًا به عند كل من عرفه أو سمع عنه.
فهذا الطبيب الطيب، الذي توفي عن عمر يناهز 76 عامًا، أفنى عمره في خدمة الفقراء، ورفض مغادرة عيادته المتواضعة في مدينة طنطا بمحافظة الغربية، والتوجه إلى العاصمة المصرية القاهرة بحثًا عن الشهرة وجمع المال من مهنته كطبيب.
وبقي في وسط أهله وأبناء منطقته من الفقراء ليعالجهم بـ10 جنيهات فقط للكشف، ومجانًا لمن لا يستطيع، وربما منحهم بعض الأدوية لمساعدتهم على استكمال العلاج.
وطوال عشرات السنين لم يغير الدكتور مشالي رحمه الله عادته ولم يترك عيادته، ولم يتراجع عن عهده الذي قطعه أمام نفسه وأمام الله لمساعدة الغلابة والوقوف بجانبهم حتى توفاه الله.
انحياز للفقراء
تخرج الدكتور محمد مشالي من كلية طب القصر العيني بالقاهرة عام 1967، ورفض العمل في القاهرة، واستلم تعيينه بوحدة صحية متواضعة في محافظة “الغربية”، ولأنه ابن بيئته ونشأ في بيئة متواضعة وكافح كفاحًا مريرًا حتى أصبح طبيبًا، فقد أحس بمعاناة الناس، وانحاز لظروفهم المادية والصحية القاسية، وقرر أن يكرّس حياته في خدمتهم.
يقول في حوار أجرته معه صحيفة “اليوم السابع“: “نذرت نفسي أن أكون “طبيب الغلابة”، من يستطيع دفع أجرة الكشف التي تبلغ 5 أو 10 جنيهات فليدفع، ومن لم يستطع أقوم الكشف عليه مجانًا”.
يؤكد “طبيب الغلابة” أنه عمل بوصيّة والده الذي أوصاه بخدمة الغلابة وهو على فراش الموت، ويشير إلى تأثره بمثله الأعلى الدكتور طه حسين، عميد الأدب العربي، ومجموعته القصصية “المعذبون في الأرض” التي تناولت معاناة الفقراء والمعدمين.
وقال إنه في بداية تعيينه كان يعمل في وحدة صحية بقرية فقيرة، وصادف وجود طفل عمره 10 سنوات يعاني من مرض السكري، ويبكي من الألم، وطلب من أمه أن تشتري له حقنة أنسولين لأنه كان يعاني من تعب شديد، فقالت له الأم إنها لا تملك من المال سوى ما يكفي لشراء الطعام له ولأخوته، وأنها لو اشترت له حقنة الأنسولين فلن يستطيعوا شراء الطعام.
وبكى طبيب الغلابة وهو يتذكر هذه الواقعة قائلًا:” صعد الطفل إلى سقف منزله وأشعل في نفسه النار، وقال لأمه: “أنا هاموت نفسي علشان أوفر لإخواتي تمن علاجي ياكلوا بيه”، وأضاف أنه جرى نحو الطفل وحاول إنقاذه وأحاطه ببطانية كي لا تتمكن النار من جسده، لكن الطفل توفي بين يديه.
وأكد أن هذه الواقعة هزته بقوة، وجعلته ينذر نفسه لعلاج ومساعدة الفقراء، فجعل قيمة الكشف 5 جنيهات فقط، وعندما ارتفع لم يتجاوز 10 جنيهات.
وبالرغم من التغيرات الاجتماعية والاقتصادية وموجة الغلاء التي مر بها المجتمع المصري، ظلت قيمة تذكرة الكشف داخل عيادة د. مشالي كما هي ولم تتغير، واستمرت حتى وفاته بقيمة 10 جنيهات (0.6 دولار)، والاستشارة أو الإعادة 3 جنيهات (0.19 دولار)، وكثيرًا ما لا يقبل ثمن الكشف من المرضى غير القادرين، ويقدم لهم الأدوية مجانًا.
رفض كل المغريات
أشرنا إلى أن الدكتور مشالي رحمه الله رفض السعي وراء الشهرة والمال في القاهرة، وقرر البقاء بجوار أهله من الفقراء والغلابة، ولكن أن يسعى المال والشهرة وراءه حتى باب عيادته ويرفضه، فهذا هو ما يثير التعجب من شخصية هذه الرجل التي يندر أن نجد مثلها في هذا الزمان.
حدث هذا بالفعل عندما جاء “غيث” مقدم برنامج “قلبي اطمأن” إلى عيادة الطبيب الراحل في محافظة الغربية، وعرض عليه مساعدة بالملايين لكنه رفضها.
وقد عرضنا في مطلع شهر مايو الماضي هذه القصة على موقعنا في موضوع بعنوان: “لماذا رفض طبيب الغلابة مساعدة برنامج “قلبي اطمأن”؟
وذكرنا أن حلقة برنامج “قلبى اطمأن” التي تم تصويرها مع “طبيب الغلابة” لم تكن مشابهة لغيرها من الحلقات السابقة للبرنامج؛ خاصةً بعد أن حققت نسبة مشاهدات عالية للغاية، تجاوزت 5 ملايين مشاهدة، وكان لها صدى كبير بين المشاهدين ورواد مواقع التواصل الاجتماعي.
المثير في الحلقة، أن “د. محمد مشالى”، رفض قبول التبرع الكبير الذي قدمه له البرنامج، كما رفض تجهيز عيادة جديدة له على أحدث طراز، واكتفى بقبوله سماعة طبية قيمتها 80 جنيهًا (5 دولارات) فقط.
ووجد مقدم البرنامج “غيث” صعوبة كبيرة في مقابلة “د. مشالي” في البداية بسبب انشغاله الدائم، وانتظر فريق البرنامج الطبيب لساعات أمام البناية التي توجد فيها عيادته.
وبحسب “غيث” فإنه “كثيرًا ما يقطع فريق البرنامج مسافات طويلة للوصول إلى أشخاص من أجل إحداث تغيير جوهري في عملهم وحياتهم، ولكن ردة فعلهم لم تدهشنا مثلما فعل طبيب الغلابة”.
فالدكتور “مشالي” تجاهل أكثر من مرة مقابلة فريق البرنامج، ولم يقابلهم إلا بعد أن طلبوا منه مساعدة شخص مريض في الشارع بالخارج، وعندما خرج الطبيب لمساعدة المريض تمكنوا من مقابلته وعرضوا عليه مساعدتهم التي تبلغ الملايين.
ورفض “د. مشالي” المساعدة، وطلب من البرنامج مساعدة الجمعيات الخيرية في مدينته طنطا، قائلًا إن هناك من هم أكثر حاجة للمساعدة منه، أما هو (بحسب كلامه) فلا يستحق المساعدة، لأنه وهب نفسه لخدمة الفقراء.
وداع الغلابة
رحل “طبيب الغلابة”، وترك وراءه إرثًا إنسانيًا كبيرًا، ونموذجًا يحتذى بين الأطباء في مصر والعالم العربي، بل وفي العالم كله، رفض كل التكريمات فكرّمه الله بحب من الناس لا حدود له، حُبّ تجلت مظاهره في حالة الحزن الكبيرة التي أصابت المصريين جميعًا لفقدانه ورحيله.
وتصدر وسم #طبيب_الغلابة مواقع التواصل الاجتماعي، وسط مشاركة واسعة من النشطاء في التعزية والرثاء للطبيب الراحل والدعاء له.
وعلى الأرض شارك الآلاف في جنازة “طبيب الغلابة” التي أقيمت في مسقط رأسه بقرية “ظهر التمساح” بمحافظة البحيرة، شمالي مصر، حيث وصل جثمانه من مدينة طنطا التي كان يعمل بها، من أجل دفنه في مقابر أسرته.
وتم تشييع الجنازة بحضور شعبي ومشاركة من وفود من المحافظة ونقابة الأطباء ووزارة الصحة المصرية.
وفي حديثه لموقع “سكاي نيوز عربية“، يقول الحاج سعيد مشالي، عمدة القرية، إنهم فوجئوا بحضور عدد كبير من المرضى الذين تعاملوا مع الدكتور مشالي إلى القرية لحضور الجنازة.
وأصدر محافظ البحيرة بيانًا رسميًا نعى فيه الطبيب الراحل، وأشاد بالجهد الكبير الذي قدمه لخدمة الفقراء، حتى أصبح نموذجًا للعطاء والإيثار.
كما تقدمت النقابة العامة لأطباء مصر، بخالص العزاء لأسرة الدكتور مشالي، منوهةً في بيان رسمي إلى أنه قضى سنوات طويلة في خدمة غير القادرين من المرضى.
أما الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، فقد نعى الدكتور مشالي في بيان رسمي قائلًا: “رحم الله طبيب الغلابة الدكتور محمد مشالي، وأسكنه فسيح جناته، ضرب المثل في الإنسانية، وعَلِمَ يقينًا أن الدنيا دار فناء، فآثر مساندة الفقراء والمحتاجين والمرضى، حتى في آخر أيام حياته”.