رأي

ما لم يدركه الأمريكيون السوريون في قانون قيصر!!

بقلم د. عارف دليلة (*)

هناك ضبابية واختلاف رأي كبير حول قانون قيصر الأمريكي، فالسوريون الأمريكيون، الذين بذلوا جهودًا كبيرة لإخراج القانون، على مدى أكثر من أربع سنوات، بعد المعرض الذي أقيم في مبنى الكونجرس لصور سيزر الشائنة، التي لا مثيل لها إلا في محارق الحرب العالمية الثانية، يصورون أن هذا القانون إنجاز غير مسبوق في التاريخ.

وهو، في الحقيقة، كذلك، من حيث نصوصه التفصيلية المحكمة التي لم تترك متنفسًا، لا للسلطة ورجالها فقط، بل وللاقتصاد الوطني ككل، مما يشمل، رغم استثنائها بصريح العبارة في نص القانون، الحاجات الإنتاجية، كالأسمدة والآلات التي تلزم الزراعة والصناعة للقطاع الخاص ولا تلزم السلطة ولا تخدمها أبدًا، وكذلك للحاجات الاستهلاكية وحتى الدوائية!.

إني أكاد اسمع أصواتًا تتهمني بالتحيز المسبق، وبعدم قراءة نص القانون الذي صيغ، والحق يقال، أنه صيغ بطريقة بالغة الدقة والحصافة، بحيث أنه استثنى الحاجات الضرورية للمواطنين من الخضوع للعقوبات والقيود، بينما ركز بشكل بالغ الدقة على محاصرة المؤسسات والأشخاص الموسومين بارتكاب، أو المساعدة على ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية، مع كل من يدعمهم، بأي شكل، في كل حركاتهم، من سوريين وغير سوريين.

********

لكن المشكلة ليست، على الغالب، في النصوص، بل بمن يطبقونها وفي آثارها التطبيقية، حتى بعد سقوط أو تغيير النظام.

فهذا نظام صدام حسين قد مضى على سقوطه سبعة عشر عامًا، تكفي لظهور جيل جديد لم يعش في ظل صدام، ولكنه لا يتمناه، على فظاعته، بديلًا عن خلفائه، الذين أصبح يعرفهم جيدًا، ولذلك يخرج متظاهرًا ضدهم.

ومع ذلك فإن العقوبات لم تلغ عن العراق بعد، هذا والعراق تحكمه تحديدًا القوى التي نصّبها وائتمنها الأمريكيون أنفسهم!

والآن، بعد سبعة عشر عامًا أهدر وسرق خلالها ألف مليار دولار، دمر العراق عن بكرة أبيه خلالها، ولم يبن فيه محطة كهرباء واحدة أو مصنعًا جديدًا، أو أعاد تأهيل محطات أو مصانع ضخمة سابقة، ومع ذلك نسمع عن اجتماع أميركي _عراقي للاتفاق على “الشراكة الإستراتيجية”!

وأية “شراكة إستراتيجية”؟، ترى هل من بين بنودها بدء البناء بعد إضاعة سبعة عشر عامًا في تدمير الدولة والشعب، ووقف الفساد وتجريف المليارات بعيدًا عن حاجات الشعب العراقي؟.

إن هذه الأمور لا يمكن للعراقيين الأحرار أن يحلموا بها إلا بتوحد الشرفاء الوطنيين اللاطائفيين اللاقومجيين، بما يحقق تقدمهم وارتقاءهم إلى مواقع القرار والإدارات العامة، الأمر الذي لا يمكن لـ(الحوار الاستراتيجي) أن يدرجه بالحساب، إن لم يكن يدرج جديًا منع حدوثه!

********

أرجو ألا يعتبر هذا الاستطراد (العراقي) هروبًا من الاستحقاق السوري، أو تهويمًا وترفًا بعيدًا عن الواقع السوري الراهن، بقدر ما هو ضرب للمثل الحي لنا السوريين الأشقاء، والذي يجب ألا تخطئه العين البصيرة!

إن أصحاب قانون قيصر يتجاهلون، أولًا، حقيقة أن كل تجارب الحصار والعقوبات في العالم خلال حوالي قرن لم تُسقِط نظامًا واحدًا، ولو استمرت عشرات السنين، وإنما تسببت فقط بإفقار عامة الشعب، والتضييق على المواطنين في كل شؤونهم الحياتية، بإعطاء الحجج لحكامهم بالتشديد عليهم، ليس أقل مما يفعلون لو تركوا لوحدهم بدون عقوبات.

ولست هنا لأتمنى الرحمة بالمرتكبين بعد كل ما ارتكبوه، وإنما أضع هذه القضية بيد أولياء الدم، لا بيد من كانوا، مع النظام، كحلفاء، يستهدفون لسورية هذا المصير الأسود، إذ أنه بعد العقوبات تصبح الأنظمة المحاصرة آمنة من أي رد فعل شعبي ضدها، مما كانوا سيواجهونه لو كان المحكومون يتمتعون بقواهم الطبيعية.

وثانيًا، مادام النظام قائمًا، فلن يقع أحد من المطلوبين في شباك العدالة، اللهم إلا بالصدفة، أو ربما نتيجة سوء تقدير للمطلوبين أنفسهم.

وثالثًا، هناك دائمًا فرص كبيرة للإفلات من الحصار ومن العقاب، يتجول داخلها المعاقبون وثروتهم المنهوبة براحة وأمان.

ورابعًا، وهو أن من يقع في الشباك ضحية للقيود والحصار والعقوبات هم الاقتصاد الشعبي ومجموع الناس العاديين البريئين، غير المطالبين بشي من قبل أحد!

********

قبل أن يبدأ سريان مفعول قانون سيزر بأسبوعين أخبرني أحد الأصدقاء من إحدى الدول الأوربية أن باكورة تطبيقات القانون، وحتى قبل بدء تطبيقه، هي أن التحويلات البسيطة التي كان يرسلها للأهل ليستمروا في استهلاك أبسط الضروريات المعيشية، ويتمكنوا من البقاء في أرضهم وبيوتهم، ولا يتركوها للأموات والنهب، أصبحت ممنوعة وتخضع للعقاب!

وقبل ذلك بسنوات، وبناءً على عقوبات سابقة على سورية، أبلغت بعض البنوك الأوروبية أصحاب الحسابات لديها، من السوريين المقيمين شرعًا ومنذ عشرات السنين على أراضيها، دون أي إشكالات عليهم تجعلهم مشمولين بأي عقوبات، أن حساباتهم قد أغلقت، فقط لأنهم سوريون!

********

ولنقارن التعامل الدولي بالعقوبات مع سورية ومع العراق. فبخصوص العراق، بعد احتلال صدام الجنوني للكويت وتدميرها وبعد إخراجه منها عام 1991، بعد تدمير جيشه، الذي كان كان يوصف بأنه “الجيش الرابع في العالم”، اتفق جميع أعضاء مجلس الأمن على إصدار قرار ينص على إنشاء “صندوق النفط مقابل الغذاء”.

فكان عائد صادرات النفط العراقي يوضع في صندوق تديره الأمم المتحدة، وتشتري بأمواله الحاجات الأساسية الضرورية وتوزعها بنفسها، (مهمشة بذلك مكانة النظام الحاكم عند شعبه) على شكل سلل غذائية توزع لكل الأسر العراقية مجانًا، لمواجهة المجاعة بسبب الارتفاع الفاحش للأسعار، وانهيار القوة الشرائية للرواتب والأجور ومداخيل ذوي الدخل المحدود، مع انهيار سعر صرف الدينار العراقي، وانحطاط قيمة الراتب الشهري إلى بضعة دولارات.

وهو تمامًا ما يسير إليه الحال في سوريا في السنوات والأيام الأخيرة. وعند سقوط النظام العراقي كان مازال في هذا الصندوق فائض مقداره 18 مليار دولار، (بعد احتلال العراق عام 2003، سرقها المحتلون وزبانيتهم!).

بينما جميع أعضاء مجلس الأمن، بعد احتلالات دول مختلفة لسورية، نجدهم صامتين عن سرقة النفط والغاز السوري، إرضاء، بالمقايضة، لعضو واحد من بينهم (الولايات المتحدة) يقوم بهذه السرقة، بعد أن يترك لزبانيته المحليين، الذين يشتغلون حراسًا لحقول النفط التي يحتلها ويشفطها، فتاتًا من هذه الثروة، دون أن يهتم أحد بتأمين الشعب السوري من حاجاته الأساسية من المواد الغذائية والحاجات المنزلية والوقود والدواء، التي تقيه من الموت جوعًا ومرضًا.

********

والسؤال هو: لماذا بادر أعضاء مجلس الأمن بأنفسهم إلى إصدار قانون “النفط مقابل الغذاء” في العراق، بينما لم يخطر ببال واضعي نص قانون سيزر الأمريكي، ومن بينهم النشطاء السوريون الأمريكيون، مثل هذا الإجراء؟

وهل لغياب هذه الفكرة عن أذهان السوريين الأمريكيين علاقة بتصريح الرئيس الأمريكي ترامب (النفط السوري نفطنا ولن نتخلى عنه)، ولم نسمع من سوري واحد، لا داخل أمريكا أو خارجها، كلمة تقول إن النفط السوري ليس مالا داشرًا، بل له مالك هو الشعب السوري وحده.

لذلك، وبعد أن كان الرئيس ترامب قد أعلن عن سحب جنوده من سورية، وعارضه بقية المسؤولين، عاد ليدعم بهذا التصريح إهداءه الجولان لإسرائيل، والآن يقيم رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو احتفالا تكريميًا لمن أهداه ماًلا مغتصبًا بإقامة “هضبة ترامب” كمستوطنة على أراضي الجولان السوري، رغم رفض أصحاب الأرض الشرعيين.

وهذا إلى جانب إهداء القدس والضفة الغربية لإسرائيل، بعد فلسطين عام 1948؟ ولم لا، طالما أنهم يعتبرون المنطقة العربية كلها مالا داشرًا، بدلالة طريقة تصرف السلطات المغتصبة بها؟

********

إن الكلام عن النفط السوري مقابل الغذاء لم يقله أحد، وللأسف، بحجة أقبح من ذنب، تقول إن ما ينطبق على العراق لا ينطبق على سورية: فالعراق دولة غنية بالنفط، بينما في سورية يبلغ إنتاج النفط فيها 9000 برميل يوميًا فقط (!!!)، ولذلك لا معنى لتأسيس صندوق للنفط مقابل الغذاء!!!

هكذا بشحطة قلم يعتبرون أن كل ما لا يقع تحت يد السلطة من النفط، أي كل ما يسيطر عليه، الآن، الجيش الأمريكي في منطقة الجزيرة السورية، لا يعتبر ملكًا للشعب السوري، وإنما هو ملك لمن يغتصبه ويسرقه من أصحابه.

متناسين أن هذا النفط الذي يسرق الآن يزيد عن مائة ألف برميل يوميًا، ويقوم مغتصبوه برفع إنتاجه إلى مستوى أربعمائة ألف برميل يوميًا، كما كان قبل عام 2011، وهو قابل للزيادة كثيرًا، وكان يشكل المصدر الأول لدخل الميزانية السورية وللدولار!

فكيف يجري شطبه وغض النظر عن اغتصابه وعن حرمان القطاعات الاقتصادية المدنية والسوريين المجوعين للوقود والكهرباء والخبز من حقهم فيه؟

ويجب أن نضع في اعتبارنا أن القانون الأمريكي الداخلي – وقانون قيصر- له صفة الديمومة، حتى وإن كان محدد المدة بخمس أو عشر سنوات، فالاحتلال واغتصاب الحقوق والأرض والثروات لا يعرف السقوف الزمنية، بل يزداد استشراءً وتوسعًا يومًا بعد يوم، مع الإمعان في تذويب أصحابها الشرعيين، ومثال فلسطين قريب جدًا، زمانيًا ومكانيًا!

********

وهكذا يصبح النص في القانون على حق الرئيس الأمريكي بتعليق العمل به كليًا أو جزئيًا، لاحقًا، لا قيمة عملية له، وبالأخص مع ربطه بمدى تلبية السلطات السورية الحالية أو التالية لمطالبه، المشروعة جدًا، بحد ذاتها، وبـ”فضل!” تصرف السلطة الأرعن المزمن بها، وهي التي لم تترك فرصة إلا واستخدمتها للتهرب من استحقاقاتها، مادامت مجرد مطالبات لمحكوميها، أصحابها الشرعيين.

 ونذكر هنا بأي عجرفة لا وطنية ولا إنسانية جرى رفض بعض هذه المطالب من قبل ممثلي النظام الرسميين في مؤتمر”موسكو 2″ عام 2015، عندما استطعنا، المعارضون من الداخل والخارج مع ممثلي المجتمع المدني الذين أرسلهم النظام من دمشق، التوصل خلال يومين إلى اتفاق، بالإجماع الكامل دون أي تحفظ، على ورقة الإجراءات الإنسانية، كوقف القتال ومعالجة مخلفاته الإنسانية الفظيعة، وإلغاء الحصارات، والإفراج عن المعتقلين.. الخ.

لتقابل هذه الورقة من قبل ممثلي النظام الرسميين، الذين انضموا إلى الاجتماع في اليوم الثالث، بالرفض الكامل بكل عنجهية، مما أدى إلى إفشال الاجتماع، رغم تمديده.

ومعلوم، أن تلك الإجراءات قبلها النظام، لاحقًا، بعد أن صدرت بقرار من مجلس الأمن، ولكن بعد خسارة فرصة أن تكون، كما أردنا، فاتحة للبدء بمفاوضات الحل السياسي، مع كل التوفيرات من الكوارث اللاحقة التي انتهت إلى الاحتلالات الخارجية!

********

ولماذا علينا أن لا نتوقع استخدام قانون قيصر، المبرر، حاليًا، بممارسة الضغط على السلطة لحماية للمدنيين والمعتقلين من عسفها الرهيب، وهو مبرر عظيم ولا شك، لو تحقق، نتوقع استخدامه للابتزاز ولكسب الوقت للحصول على تلبية الطلبات الأميركية، التي لا علاقة لها بما هو منصوص عليه فيه، هذه المطالب التي تصبح غير قابلة للإشباع، تمامًا مثل نهم أرباب الفساد للمال.

وهذا ما نقلته الأخبار المسربة من داخل اجتماع “الحوار الاستراتيجي الأمريكي _ العراقي” الجاري في بغداد، والذي ليس فيه من “الإستراتيجية” شيئًا للعراقيين غير الإملاء والاهانة والتهديد من قبل الأمريكيين لهم. وليس هناك حاجة للتأكيد أن هناك زواج وترابط موضوعي بين الفساد والاحتلال!

********

إن أهم ما في أي عقوبات تفرضها دولة قوية على سلطة دولة أخرى فاشلة، ليس ما ورد في نصوص قانون العقوبات، بقدر استخدامه كالعصا المرفوعة للابتزاز وللأمر بتقديم التنازلات، الآن ولاحقًا، مقابل تعليق أو التخفيف من أي بند من بنوده.

وسنتوقع أن يكون من بين أهم التنازلات المطلوبة، حتى من أي سلطة جديدة في سورية، ولو كانت سلطة أمريكية محضة (كما حدث في العراق!) إنما ستكون، إضافة إلى الاستباحة الكاملة لكل شيء في داخل سورية (بعد أن لم يبق شيء غير مستباح من قبل هذا أو ذاك)، القبول بالمطالب الإسرائيلية- الأمريكية (بحجة ضرورتها للأمن القومي الأمريكي!).

مثل التنازل رسميًا عن الجولان المحتل لإسرائيل (وفي مؤتمر القاهرة الأول والأكبر للمعارضة السورية، اجتمع السفراء الغربيون مع بعض المعارضين السوريين، وكان السؤال الرئيس الذي وجهوه لهم: في حال خلافتكم للنظام الذي تريدون إسقاطه، ما هو موقفكم من الاحتلال الإسرائيلي للجولان؟!).

وسيكون من بين المطالب بالتأكيد الانضمام إلى المصفقين لصفقة القرن، ولضم القدس والضفة الغربية وتحقيق يهودية الدولة العنصرية، مع الطرد الجديد للفلسطينيين من بيوتهم في أراضي 1948، والتطبيع الكامل وملحقاته من “دبكات إسرائيلية- عربية” في السفارة الإسرائيلية التي سيقيمها في دمشق أول رئيس مرشح من قبل إسرائيل، ومفروض من قبل قوى الاحتلال هدية لملحقاتهم السورية، مما هو مخطط، وما وفرته جرائم التهجير والتدمير والقتل والهمجية التي مورست في سورية بصورة منهجية على مدى عقود، حتى أصبحت مشهدًا اعتياديًا يوميًا، من مهجنين سوريين للأسرلة!

********

فهل كان السوريون الأمريكيون الذين جاهدوا لإصدار هذا القانون، بدافع مبرر في جوهره، وهو حماية المدنيين السوريين، قد فكروا بسورية الجديدة، أو، على الأقل، بأبسط حاجات أهلهم في سورية أو في الشتات، التي تتطلب إيراد بند في القانون لتأسيس “صندوق النفط مقابل الغذاء”.

وليته كان يصدر عن مجلس الأمن، لتكون الحالة الوحيدة التي تنجو من الفيتو الروسي- الصيني، مادام النفط السوري ينهب من قبل الاحتلال الأمريكي، وليكون ثمن النفط السوري بديلًا عن مؤتمرات دولية لاستجداء الغذاء بلا نتيجة.

فهل فكروا بشعبهم، بل بأهلهم، الذين سيكونون أيضًا من ضحايا الآثار غير المحسوبة للقانون، من بقي منهم ولم يقتل أو يهاجر؟، هذا في الوقت الذي لن تشعر السلطة المجرمة يومًا، بسبب هذا القانون، بأي تضييق يستحيل الالتفاف عليه، ليس بشأن استمرارها وتأمين حاجاتها الأساسية كسلطة قمعية نهابة فحسب، بل ولا بشأن تأمين ملذاتها وملذات أولادها المليارديرية في الخارج وهداياها الباهرة واستمرار حصادها من المليارات، وتقاسمها الأموال مع المحتلين “الضامنين”، وحتى مع غير الضامنين بإيداع أموال الشعب المسروقة لديهم؟

********

فألاهم ليس النصوص، وإنما التطبيق والآثار الفعلية على الأرض وعلى المواطنين وعلى مستقبل الدولة ومستقبل الأبناء، بل والنيات المختبئة خلف النصوص “البراقة” للقانون. فلماذا لم يصدر هذا القانون منذ عرض صور قيصر قبل خمس سنوات أو خلالها، مثلا؟ ليصدر، أخيرًا، قبل ستة أشهر، مربوطًا، بعجالة تصبح موضع تفاخر(!)، بقانون أكبر ميزانية لوزارة الدفاع الأمريكية، كقانون أمريكي داخلي؟

أليس الجواب على هذا السؤال يكمن في أن الاحتلال الأمريكي للجزيرة السورية، أرض النفط والغاز والثروات الزراعية (وثروات أخرى أثمن بكثير مازالت سرية!) اللازمة للشعب السوري كله، قبل السلطة وقوى الأمر الواقع والمحتلين، إن هذا الاحتلال الأمريكي لم يكن قد استكمل بعد؟

ومع بدايات ظهور آثار تطبيقات هذا القانون، والتي هي أكبر من أن تحصر الآن، وبالطبع لن يكون من بينها قطع يد سارقي خبز الشعب السوري وشافطي ثرواته، رغم النصوص التي تسميهم، أو بالأحرى، إعادة فلس واحد من هذه المسروقات لأصحابها الشرعيين- الشعب السوري، والعراق ولبنان وغيرهما أوضح مثال على ذلك.

أليست هذه الآثار والكثير المقبل، الأخطر منها، والتي ليس من بينها، بالضرورة، سقوط النظام وقدوم بدائله أو شركائه المجهزين، وإنما إيقاع المزيد من الأضرار والإرهاق على الشعب الجائع فقط، ومنع قيام سورية الموحدة، ودون أن تتضرر منه السلطة التي يتفاخرون بأنهم خنقوها به!

********

أما بشأن انهيار سعر صرف الليرة السورية، فأنني بعد التأكيد على أن هذا الانهيار كان سابقًا لقانون قيصر وهو يجري على مدى العقود الخمسة السابقة، وكان لي محاضرات وأحاديث وكتابات سابقة عديدة عنه، مع ذلك فلا يجوز نفي أي تأثير لقانون قيصر عليه.

فالعقوبات الأمريكية على روسيا، وهي لا تعاني من حرب طاحنة بين الحكومة والشعب، قد أدت إلى خسارة الروبل نسبة كبيرة من قيمته. وليس مثال إيران وتركيا ببعيد، رغم أن تركيا لم تُفرض عليها عقوبات بقانون، ومع ذلك فقد تدهورت القوة الشرائية لليرة التركية كثيرًا.

أما بالنسبة إلى سوريا، فيكفي أن نطالب القائلين بأن قانون قيصر لا يعاقب الشعب السوري، ولن يتضرر منه المواطنون السوريون، بقراءة تصريح جيمس جيفري المبعوث الأمريكي إلى سوريا، الذي قاله أمام الشركاء السوريين في صياغة قانون قيصر قبل أيام.

حيث أكد على الأثر الكبير للقانون على تفاقم انهيار الوضع الاقتصادي والمعيشي، والارتفاع الكبير في الأسعار نتيجة انهيار سعر صرف الليرة السورية …الخ، بالإضافة إلى قوله بصراحة كاملة، بأن الولايات المتحدة قد تقدمت للنظام بعرض تغض فيه الطرف عن إزالة النظام وتطالبه فقط بتحسين سلوكه!

********

وبينما يصب الأمريكيون الماء البارد على السوريين القائلين بأن القانون سيكون الضربة القاضية التي ستعجل بسقوط النظام، وأنه لن يضر الشعب السوري، فإن آثار القانون على المواطنين السوريين المنكوبين، (المدنيين، الذين يقول القانون في عنوانه إن هدفه هو حمايتهم!) أي على 90% من الشعب السوري، ستكون مثل أثر صب الزيت على النار.

فالنار أوقدت منذ مطلع عام 2011، بل منذ الثمانينات، وهي منذ ذلك الوقت، وبالأخص خلال السنوات التسع الأخيرة، تزداد اشتعالًا، وبالأخص بعد التخلي عن الليرة السورية، منذ أيام، لصالح الليرة التركية في الشمال المحتل، تركيا، أو لصالح الدولار في منطقة الجزيرة المحتلة ، أمريكيًا.

هذا مع استمرار وقوع أكثرية الدخل السوري في مناطق سيطرة النظام بيد الفاسدين المزمنين واضعي اليد على أموال الشعب، الذين يسارعون، يوميًا، لتبديل الليرات السورية، التي لم تكلفهم شيئًا، بالدولار، إلى أن تصبح الليرة السورية عديمة القيمة، تمامًا، مثلما أصبح عليه النقد الألماني في الحرب العالمية الثانية، ومثل عملات أخرى لسلطات فاسدة في عصرنا.

ولن تقع المعاناة الناجمة عن ذلك على المعاقبين بالقانون، إذ أن أموالهم ستستمر بالازدياد، بل ستقع المعاناة، تحديدًا، على غير المعاقبين بنصوصه، من المدنيين الذين يقول القانون في عنوانه إن هدفه هو حمايتهم، ودون أن يفكر أحد بتعويضهم عن خسائرهم التي لا يحتملونها، وذلك بتوزيع ثمن النفط، المسروق الآن، عليهم، كسلع أساسية.

********

وشهادة حق تقال: إن القانون قد يكون بالغ الروعة لو كنا نعيش في عالم تحكمه مبادئ الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون (التي كانت ردًا على أو استجابة لمرسوم السلام الذي أصدره لينين، زعيم الاتحاد السوفييتي الجديد) خلال خطابه يوم 8/1/1918 أمام الكونجرس، والتي وصفها نظيراه الانكليزي والفرنسي بأنها تمثل (الأخلاقية المثالية غير القابلة للتطبيق).

أو لو كانت الإدارة الأميركية الحالية هي تلك الإدارة التي أرسلت في عام 1919، بناءً على قرار من عصبة الأمم ، لجنة كينغ- كرين إلى سورية، لتجتمع في فندق الشرق في ساحة الحجاز، بممثلين من مختلف أطراف سورية الطبيعية، من فلسطين وغيرها، وتكتب تقريرها إلى عصبة الأمم، الذي تقول فيه بأنه تأكد لهم أن الشعب السوري على درجة كافية من الحضارة والمدنية لأن يحكم نفسه بنفسه، دون حاجة إلى أوصياء عليه، بخلاف ما كانت قد قررت عصبة الأمم!

ولو كان العالم محكوما بأمم متحدة نافذة سلطتها على الجميع على قدم المساواة، ولا يعلو عليها سلطة دولة متمردة، مارقة، تعمل عكس مبادئها وقانونها وقراراتها، وهي أبعد ما تكون عن تمثل قيم ومبادئ الحق والعدل على النطاق الدولي، ويقوم رئيسها بإهداء ما لا يملك إلى من لا يستحق، ويهدد المحكمة الجنائية الدولية إذا ما قررت توجيه الاتهام إلى أي مجرم أمريكي، مهما ارتكب من جرائم بحق الغير.

مثل ذلك الجندي الأمريكي الذي يتفاخر علنًا أنه قتل لوحده 2750 عراقيًا مدنيًا، دون أن يتهم من قبل دولته بأي جريمة، في تحصين كامل لكل من ارتكبوا جرائم القتل والتعذيب العمد، سواء ضد العراقيين، أو، بالتكافل والتضامن مع الإرهابيين الصهاينة، ضد الفلسطينيين وغيرهم من العرب.

بل من يرتكبون الجرائم حتى ضد الأمريكيين الملونين أنفسهم، باعتبار أن المجرم، إذا كان عسكريًا أو شرطيًا أمريكيًا، فهو كائن عصي على المحاكمة من قبل من هم “أدنى منه قيمة!” من ضحاياه، أو من قبل محكمة جنائية دولية تقوم على المساواة بين الناس أمام القانون، ويبقى في حِل من العقاب!

ترى ماذا يعني ذلك إن لم يكن شوفينية عنصرية فوق القانون الإنساني الدولي؟، وكيف تكون هكذا عنصرية مستحقة لأن تلعب دور “حكيم العالم” الحامي لحقوق الإنسان في العالم كله، هذه المكانة التي يستحقها، والحق يقال، المفكر الأمريكي الكبير الحي نعوم تشومسكي، وليس، بالتأكيد، رئيس الصدفة الأمريكي دونالد ترامب؟

********

ولكن، قبل توجيه الاتهام لأي دولة أو مسؤول في العالم بممارسة الإجرام، أو بتغطيته والتحريض عليه ، يجب أن نسأل أنفسنا، نحن العرب: هل ترك مجرمو دولنا أي فرصة لمجرم آخر في العالم أن يتصدر ويتفاخر عليهم بالإجرام والإرهاب؟

إن مصداقيتنا رهينة بالأمانة والصدق في الجواب على هذا السؤال، كما أن في هذا الجواب يكمن الشفاء من الداء العضال- داء خسران التعاطف والقيمة إمام العالم، وبالتالي، يكمن الفوز باحترام الذات، أولاً، من أجل الفوز باحترام الآخرين والارتقاء نحو المستقبل الأفضل.

وأخيرًا أقول، لم يبق أمام السوريين، جميع السوريين، إلا إدراك حقيقة أن مصيرهم مرتبط باجتماعهم، وبخروجهم من تحت ظلال الآخرين ومن جيوبهم الصغيرة، بعودتهم إلى الذات وإلى الوطن الديمقراطي الحر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) د. عارف دليلة، هو أستاذ الاقتصاد السياسي والاقتصاد السوري والعربي والدولي في الجامعات السورية، وعميد كلية الاقتصاد بجامعة دمشق سابقًا.

وهو خبير اقتصادي عربي، له العديد من الكتب الاقتصادية المؤلفة والمترجمة المنشورة في سوريا وبيروت، والعديد من الأبحاث الاقتصادية والسياسية

ومعروف عنه معارضته للفساد والاستبداد على مدى عقود، تعرض للصرف من الخدمة عام 1998، وتعرض للاعتقال في 9/9/2001، حيث كان من بين المعتقلين لإخماد ربيع دمشق، وحكم عليه بالسجن الانفرادي لمدة عشر سنوات.

أخلي سبيله عام 2008، وعاد لإلقاء المحاضرات، ونشر البحوث المعارضة، والمشاركة في الحراك الوطني للتغيير، ولكنه لم ينخرط في هياكل المعارضة التي تشكلت في الخارج، لقوله عنها إنها ولدت ميتة، وأنها أنشئت من أجهزة خارجية، وأغرقت بالأموال والسلاح والمتطوعين المتطرفين المعادين لأهداف الشعب السوري التحررية.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس وجهة نظر الموقع


تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى