نخطئ كثيراً بمطالبتنا باستعادة الوضع التاريخي والقانوني للمسجد الأقصى، وكأننا باستعادته نكون قد حررناه وطهرناه، وطردنا الاحتلال منه وأعتقناه، وفرضنا سيادتنا عليه واسترجعناه.
المقصود الشائع باستعادة الوضع التاريخي للمسجد الأقصى المبارك، هو العودة إلى الواقع الذي كان عليه قبل احتلال الشطر الشرقي من مدينة القدس في يونيو عام 1967، عندما كان تحت السيادة العربية الأردنية، التي كانت تشرف عليه وعلى مدينة القدس، ضمن الارتباط العضوي والسياسي للضفتين الشرقية والغربية، اللتان كانتا تتبعان التاج الأردني، والذي اعتبر المسجد الأقصى مكاناً خاصاً بالمسلمين فقط، ومنه انبثقت الاتفاقيات مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، القاضية باحترامه للوضع التاريخي والقانوني للمسجد الأقصى، وهو ما لم يلتزم به، وما حاول تغييره تدريجياً، بالقوة والفرض حيناً، وبالخبث والمكر أحياناً أخرى.
إلا أن الوضع التاريخي والقانوني الصحيح للمسجد الأقصى المبارك، وهو ما يجب أن نطالب به ونصر عليه، هو الوضع الذي كان لمئات السنين في ظل الدولة العثمانية، حيث السيادة الإسلامية الكاملة عليه، وإبان الانتداب البريطاني على فلسطين، حيث كان المسجد الأقصى المبارك مكاناً خاصاً بالمسلمين وحدهم، لا ينازعهم عليه أحد، ولا تمنعهم من الدخول إليه والصلاة فيه سلطة.
صحيح أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تسعى لتغيير الواقع الذي كان عليه المسجد الأقصى المبارك إثر عام 1967، ولا تفكر أبداً في العودة إلى ما كان عليه قديماً، وتسعى كما تدعي للتقسيم المكاني والزماني للمسجد، وخطواتها إن أنكرت ونفت تدل على ذلك، واقتحامات مستوطنيها المستمرة تشير إلى هذه النية.
إلا أن هدفها الأسمى وغايتها الأولى هي السيطرة الكلية على قبة الصخرة المشرفة، والاستيلاء على المكان المقدس، والمباشرة في بناء الهيكل الثالث المزعوم، الذي يعتقدون أن قبة الصخرة قد احتلت مكانه، وأنها بنيت على أنقاضه.
ومن أهدافهم الخبيثة التحكم في أوقات صلاة المسلمين وساعات دخولهم إلى مسكنهم، وتنظيم رحلاتٍ سياحية ودينية لليهود الوافدين والأجانب من مختلف أنحاء العالم، ضمن إدارة وتنظيم وزارة السياحة الإسرائيلية، ولعل الخرائط التي تصدرها وتوزعها على السياح، بما فيها من أسماء ومعالم وآثار، تشير إلى مخططاتهم الحقيقية تجاه المسجد الأقصى المبارك.
سلطات الاحتلال الإسرائيلي لم تعد تعمل بصمت، كما لم تعد تخفي نواياها وتموه أهدافها، فقد وصلت بها الجرأة والوقاحة إلى الإعلان المباشر والصريح عن أهدافها، والكشف المستمر عن مخططاتها، ولعلها منذ العام 2016 قد غيرت كثيراً من سياساتها، حيث كانت تعمل على مدى العقود السابقة بصمتٍ وهدوءٍ، بعيداً عن الإعلام وبصورةٍ لا يشعر بها الفلسطينيون، فكانت تحفر الأنفاق، وتبني الجسور، وتعمر الأدراج، وتغلق بوابات وتفتح أخرى، وتعيد رسم الخرائط وتسمية الأماكن.
لكنها اليوم لا تخفي نيتها بناء كُنسٍ داخل باحات المسجد، والسماح لليهود بالدخول إليها والصلاة فيها، وها هي جماعاتها تعلن عن نيتها تقديم القرابين وذبح السخلان داخل باحات المسجد، والصلاة علناً والاستلقاء على الأرض جهراً، والنفخ في الأبواق تحدياً، في إشاراتٍ صريحةٍ واضحة، أن زمان الهيكل قد اقترب، وأن أوان استعادته قد أزف، وأن أدواته وحجارته، وأزياء عماله وعُمَّاره، وثياب زواره ومصليه، كلها قد أصبحت جاهزة ومتوفرة.
لا يقصر الفلسطينيون في الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك، والحفاظ على هويتهم العربية ومقدساتهم الإسلامية والمسيحية، ولا يألون جهداً في مواجهة سلطات الاحتلال والتصدي لإجراءاتهم، ومحاولة إفشال مشاريعهم وإحباط خططهم، رغم كل الصعاب والتحديات التي يواجهونها.
فهم محاصرون في مناطقهم، وممنوعون من الوصول إلى مدينة القدس والدخول إلى المسجد الأقصى المبارك، وكثيرٌ من أهل القدس يطردون منها، وتسحب هوياتهم، وتقيد حركتهم، ويبعدون عن المسجد، ويطردون من المدينة، ويعاقبون بالحبس المنزلي والاعتقال الفعلي، إلا أنهم يرون أن واجب الدفاع عن هويتهم ومقدساتهم، ووجودهم وحقوقهم، لا يسقط بتغول العدو وقوته، ولا بقسوة إجراءاته وخشونة معاملته.
أمام هذا الثبات الشعبي الفلسطيني الكبير، وتضحياتهم وعطاءاتهم، وصبرهم وصمودهم، وألمهم ومعاناتهم، فإنهم يحملون الأنظمة العربية والإسلامية خاصةً، والمجتمع الدولي عامةً، كامل المسؤولية عن جرائم العدو واعتداءاته، فعليهم تقع مسؤولية التصدي لسلطات الاحتلال، ومنعه من فرض أي تغييرٍ على واقع القدس والمسجد الأقصى.
فهم يملكون أدواتٍ أخرى ووسائل دبلوماسية مختلفة، وعندهم مؤسسات ومنظمات، ولجان وهيئات، ويستطيعون رفع شكاوى أمام الأمم المتحدة ومؤسساتها المختصة، والمطالبة بمحاسبة سلطات الاحتلال وإرغامهم على احترام حقوق الشعب الفلسطيني، والكف عن محاولات المس بحقوقه ومقدساته، وتغيير الواقع لما يخدم مصالحهم ويحقق أهدافهم، ولعل الشعوب العربية والإسلامية لا تغفر لأنظمتها وحكوماتها صمتها وضعفها، وعجزها وربما قبولها بجرائم العدو التي تتوالى ولا تتوقف، وتشتد وتيرتها ولا تضعف.
أخيراً فإن الفلسطينيين والعرب والمسلمين معاً، لا يتطلعون فقط إلى حرية العبادة، وحرية الوصول إلى الأماكن المقدسة في القدس، للصلاة في المسجد الأقصى المبارك وكنيسة القيامة، فهذا حقٌ مشروعٌ ومكفولٌ، لا يتنازل عنه الفلسطينيون، ولا يعتقدون أن أحداً يقوى على انتزاعه منهم أو حرمانهم منه، مهما عظمت قوته وبلغ عنفه، ولن يرضوا عن الاحتلال ويسكتوا عنه في حال سمح لهم بالوصول إلى المسجد الأقصى وكنيسة القيامة والصلاة فيهما، أو توقف عن استفزازاته وإجراءاته العدوانية، ذلك أنهم يتطلعون إلى تحرير بلادهم كلها، واستعادة وطنهم كاملاً، وتطهير مقدساتهم الدينية، وفرض سيادتهم الوطنية، وهذا ما سيكون بإذن الله، طال الزمن أو قصر، وتأخر النصر أو تعجل.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس وجهة نظر الموقع