رأي

من وضع القشّة التي قصمت ظهر لبنان؟

أحمد الغـر

لم يكن انفجار مرفأ بيروت الذي هز هذا البلد الصغير بجغرافيته، الكبير بأزماته، سوى قشّة وُضِعَت على ظهره فقصمته، فلبنان المثقل بأزماته المالية التي تتجاوز المعطى الاقتصادي والإداري البحت يعيش أسوأ أزمة اقتصادية منذ الحرب الأهلية التي دارت بين عامي 1975 و1990، وهو مثقل أيضًا بأزماته السياسية والاجتماعية التي تتجاوز بأشواط سوء الإدارة والفساد المستشري وانعدام الحسّ الوطني والاجتماعي لغالبية الطبقة الحاكمة.

في رحم الدولة اللبنانية العميقة تسكن أمراض عضال، لا فكاك منها، هكذا يظن البعض أو بمعنى أدق هكذا جُعِلَ الكثيرون يعتقدون أن واقع الحال في لبنان لا يمكن أن يتغير، فالمحاصصة باقية والطائفية والحزبية والزعامات المذهبية من ثوابت هذا البلد.

لكن هل يمكن أن يكون انفجار مرفأ بيروت هو الشرارة الأولى لحرق هذا الواقع البائس؟، هل يمكن أن يحظى اللبنانيون في وطنهم بدولة متماسكة، آمنة، ذات مؤسسات قوية وديموقراطية حقيقية؟، أم أن تفجير المرفأ كان مقصودًا وله أهداف مبطنة، وأنه مجرد جزء من فساد متراكم وتدخلات خارجية فاعلة؟

في ظل الواقع الأليم الذي يعيشه أهل لبنان لم يكن أكثر المتشائمين بينهم يتوقع أن تحدث كارثة مماثلة، انفجار هائل ناجم عن 2750 طنًا من نترات الأمونيوم كانت مخزنة منذ 6 سنوات في مستودع بالمرفأ، بعد أن تمت مصادرتها من باخرة كانت متجهة إلى موزمبيق. الانفجار الذي أحدث كرة نارية كبيرة جدا، ثم سحابة صعدت للسماء تلتها موجة أكبر عبرت المدينة بأكملها، يعادل زلزالا بقوة 3,3 درجة على مقياس ريختر.

وإلى جانب الخسائر الاقتصادية التي تقدر بما بين 3 و5 مليارات دولار، كانت خسائر الأرواح (حتى لحظة كتابة هذه السطور) وفاة 158 شخص وإصابة أكثر من 6000، فيما بات 300 ألف شخص آخرين في عداد المشردين بعد أن أصبحت منازلهم غير صالحة للسكن.

هنا تبرز عدة تساؤلات: لماذا ظلت تلك الكمية الضخمة من هذه المادة الخطيرة مخزنة طيلة تلك الفترة بالمرفأ؟، ولماذا صودرت بالأساس؟، وهل حقًا كان اشتعال هذه المادة هو سبب هذا الانفجار الهائل؟، هل يقف “حزب الله” خلف الانفجار؟، أم إسرائيل؟، أم أنها الصدفة والخطأ البشري غير المقصود هما السبب في كل ما حدث؟!

علميًا؛ فإن مادة نترات الأمونيوم عبارة عن ملح أبيض عديم الرائحة يستخدم كأساس للعديد من الأسمدة النيتروجينية، حيث يستخدمها المزارعون في تسميد التربة، وهي مواد غير قابلة للاشتعال ولكنها مؤكسدات، أي أنها تسمح باحتراق مادة أخرى مشتعلة، لذا يتم استخدامها في تصنيع الأدوات المتفجرة.

وهنا تبرز فرضية الهجوم وإلقاء قنبلة أحدثت هذا الانفجار الضخم، تلك الفرضية التي كان الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” هو أول مؤيديها، حين قال إن الانفجار يبدو كأنه “اعتداء رهيب”، مشيرًا إلى أن خبراء عسكريين أمريكيين أبلغوه بأن الأمر يتعلق بقنبلة، فهل تقف إسرائيل وراء هذا الحادث؟

بالرغم من أن إسرائيل قد نفت أي علاقة لها بالانفجار، وهى التي تتباهى دائمًا بأي عملية داخل عمق البلدان العربية، إلا أن ثمة شكوك أن تكون هى من يقف وراء هذا الانفجار، فحزب الله كان يخوض معركة جانبية معها منذ سنوات وقد تصاعدت وتيرتها مؤخرًا، كما أنها كانت تسير جنبًا إلى جنب مع معركته الأم، سياسيًا داخل لبنان، وعسكريًا داخل سوريا إلى جانب نظام بشار الأسد، وقد تكون عملية تفجير المرفأ جزء من خطة لإلهاء حزب الله في الداخل اللبناني.

ولا يمكن إغفال أن المسؤولين الإسرائيليين ـ وعلى رأسهم “بنيامين نتنياهو” ـ قالوا في أكثر من مناسبة إن إسرائيل ستضرب العمق اللبناني في حال قام “حزب الله” بأي عملية ضدها، كما كانوا يعلنون عن بعض أماكن صواريخ وأسلحة الحزب، وغالبًا ما كانوا يذكرون مرفأ بيروت كأحد الأهداف المحتملة لقصفهم.

قد يكون تفجير مستودع نترات الأمونيوم هو الهدف الذي كانوا يتحدثون عنه، وهم بذلك يسعون إلى تأليب الرأي العام اللبناني ضد الحزب، وإزاحة الغطاء الشرعي الذي يتحرك به الحزب داخليًا، كون حكومة “حسان دياب” هي حكومة الحزب بالأساس، والتي دأب على وصفها بـ”حكومة الإنقاذ”، بالرغم من كونهاـ منذ تشكيلهاـ بحاجة لمن ينقذها، وقد تكون أيضًا رسالة إسرائيلية بعيدة المدى لإيران، التي تعتبر الأم الشرعية للحزب.

ثمة فرضية أخرى تشير بأصابع الاتهام نحو “حزب الله” نفسه، فهذه المواد صودرت لصالحه، وقد استخدم الحزب المرفأ كمخزن شرعي لمواده الخطرة، وقد يكون الخطأ البشري غير المقصود الذي حدث إبان قيام بعض العمال بعمل إصلاحات في عنبر (12) الذي يحتوي تلك المواد هو السبب في فضح أفعال الحزب.

لم يرد “حزب الله على الفور، وكان صمته مدويًا، ساعات قاتلة من اللاـ تعليق حتى خرج أمينه العام ليطل على اللبنانيين المنكوبين بانفجار مرفأهم، رافضًا كل الاتهامات التي وُجِهَت له ولحزبه.

خطاب “نصرالله” الطويل يمكن تلخيصه في جملة واحدة؛ “لم نكن وراء هذا التفجير، ونريد تحقيقًا شفافًا في الأمر”، الشفافية!، هنا بيت القصيد، فمنذ أن بدأت الجماهير الغاضبة في الخروج بشوارع لبنان كانت تُحمّل “نصرالله” وحزبه، الجزء الأكبر من مسؤولية غياب الشفافية في هذا البلد، الذي لا يدرك حكامه معنى هذه الكلمة في قواميسهم السياسية.

فغياب الشفافية هذا هو مكمن التدهور الحادث في لبنان، واستغلالًا لغيابها ـ أيّ الشفافية ـ كانت محاولات الحزب المستميتة لإلحاق لبنان بالمشروع الإيراني تسير على قدمٍ وساق، عبر تطبيق خطته لقضم الدولة اللبنانية ومؤسساتها بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005.

البعض يُلمّح أيضًا إلى أن الكارثة التي وقعت في مرفأ بيروت كانت لصرف الأنظار عن حكم محكمة العدل الدولية في قضية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق “رفيق الحريري”، وهو الحكم الذي كان على بُعد يومين فقط من الانفجار، وكان من شأنه أن ينزع آخر أوراق التوت عن عورة “حزب الله”.

المؤسف أكثر من الانفجار ذاته، على فداحته، هو أنه فتح بابًا للاستغلال السياسي على مصراعيه، فكل فريق يسعى لتوظيف الانفجار لمصلحته، ويستخدمه كمادة لنكايات سياسية، ولتصفية حسابات وصراع المحاور، وهذا كلّه يعمّق من الشرخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي في البلد.

لقد انتظر الساسة اللبنانيون وصول زعيم غربي إلى بيروت، وهو الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، كي يوجه لهم الدعوة للالتقاء على نحو طارىء للتفكير سويًا في سبل حل الأزمة، والنهوض بوطنهم ولملمة جراحه.

أيّ مأساة تلك أن ينتظر اللبنانيون غريبًا أجنبيًا يوحدهم وينبههم إلى ضرورة تجاوز الانقسامات ووضع مصلحة البلد في المقدمة، خاصة في هذه اللحظة المصيرية الخطيرة.

قبل وقوع الانفجار كان الشارع يغلي بمئات آلاف اللبنانيين، المطالبين برحيل الطبقة السياسية التي يحملونها مسؤولية تدهور الوضع الاقتصادي، ويتهمونها بالفساد والعجز عن تأهيل المرافق وتحسين الخدمات العامة الأساسية، فكيف حال هؤلاء بعد أن تدمرت عاصمتهم في وضع كارثي لم تشهده بيروت من قبل في تاريخها.

فنحو نصف المدينة تضرر أو تدمر، مما جعلها مدينة منكوبة، في وطن منكوب بالأساس حتى من قبل أن ينفجر مرفأ عاصمته، لكن يبدو أن السلطة الحاكمة في لبنان يسعدها أن يبقى هذا الوطن غارقًا في الأزمات، التي لها أول وليس لها آخر.

لقد انتظر اللبنانيون 15 عامًا كاملة لمعرفة من قتل “رفيق الحريري” في حادثة غيّرت وجه لبنان، اليوم يأتي انفجار مرفأ بيروت ليؤجل النطق بالحكم على المتهمين، ويزيد من غموض مستقبل وطنهم، الذي كان يوصف يومًا بأنه “سويسرا الشرق”، فكم من الأعوام سيضطر اللبنانيون لانتظارها حتى تتضح حقيقة من فجّر عاصمتهم؟!


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس وجهة نظر الموقع


تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى