أخبار أميركاتقارير

قمع في بلد الديمقراطية.. مشاهد كاشفة لعنف الشرطة وضرب النساء وتغطية الوجوه خوفًا من الانتقام

علي البلهاسي

كانت الحرب على غزة وستظل أزمة كاشفة للضمير الإنساني حول العالم، فقد أسقطت قناع الزيف عن وجه النظام العالمي الجديد، الذي تعامل بتناقض صارخ مع حربين متشابهين في كل من غزة وأوكرانيا.

ففي أوكرانيا وقف العالم مع المظلوم ودعمه سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، بينما في غزة وقف مع الظالم وبالغ في دعمه لدرجة حسدته عليها أوكرانيا نفسها.

وقامت الدنيا ولم تقعد بعد اغتيال معارض روسي، ولم يهتز لها جفن وهي تتابع على مرأى ومسمع منها عملية إبادة جماعية اغتالت حتى الآن نحو 40 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، فضلًا عن نحو 100 ألف جريح، ودمار غير مسبوق في التاريخ الحديث.

أسقطت الحرب على غزة كل الرهانات على مجلس الأمن وكل المنظمات الدولية التي وقفت عاجزة أمام طغيان دول الفيتو والغرب المتمدين، وكذبت كل إدعاءات الديمقراطية وحقوق الإنسان التي صدعتنا بها هذه الدول على مدى عقود.

وأثبتت الحرب على غزة أن الرهان الصحيح لا يكون إلا على الشعوب التي تمثل ضمير العالم الحي، والتي هالها ما شاهدته من جرائم حرب وإبادة وثقتها الكاميرات على مدى 7 أشهر، وكانت كفيلة بأن تمحو من أذهانهم أكاذيب الإعلام الغربي التي سحرتهم منذ عقود حول ما يحدث في الشرق الأوسط، وتعيد من جديد تعريف مصطلحات تم تشويهها وإساءة استخدامها على مدى 75 عامًا مثل المقاومة والإرهاب والجاني والضحية.

ولعل الاحتجاجات المستمرة في الجامعات الأمريكية وفي العديد من البلدان حول العالم تعد مثالًا حيًا على يقظة الضمير الحي للشعوب، التي أبت إلا أن يكون لها صوت مسموع، وموقف مشهود، تبرئ به نفسها أمام محكمة التاريخ التي لن ترحم كل من ساهم في هذه الجرائم والمذابح التي تمارس يوميًا ضد الفلسطينيين في غزة، سواء بالمشاركة الفعلية أو الدعم المادي والمعنوي، أو حتى بالتقاعس والصمت المطبق الذي يلاحق أصحابه بمشاعر الخزي والعار.

قمع في بلد الديمقراطية

غير أن احتجاجات الجامعات الأمريكية نفسها كانت اختبارًا قويًا للديمقراطية الأمريكية، التي يبدو أن فشلت حتى الآن في الدفاع عن نفسها أمام مشاهد القمع والعنف والانتقام التي تمارسها السلطات ضد المحتجين داخل وخارج الحرم الجامعي.

فمشاهد ضرب وسحل واعتقال المحتجين، بما في ذلك الطلاب وحتى النساء وأساتذة الجامعات، تنتشر بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، وتوثق ممارسات طالما أدانت أمريكا مثلها في دول العالم الثالث ووصفت قادة هذه الدول بالديكتاتورية والقمعية.

بينما الصور المتداولة لشباب الجامعات الأمريكية وهم يغطون وجوههم أثناء الاحتجاجات تشبه تلك الصور في الدول القمعية التي يخشى المحتجون فيها من الملاحقات الأمنية، ومن الانتقام الذي قد يأتيهم في صورة تعليق للدراسة، أو طرد من الجامعة، أو حرمان من الالتحاق بأي وظيفة وضياع مستقبلهم، لا لشيء سوى أنهم أرادوا ممارسة حقهم في التعبير الذي كفله لهم الدستور والقانون.

هذه المشاهد المؤسفة حدثت وتتكرر كل يوم، ولم تعد حادثًا معزولًا أو فرديًا، بل أصبحت جزءًا من اتجاه أوسع في أمريكا يتم ممارسته ضد المظاهرات والاحتجاجات المناهضة للحرب الإسرائيلية على غزة، وأصبح القمع المنهجي لهذه الاحتجاجات جزءًا لا يتجزأ من استجابة الأمن والشرطة لهذه القضية، التي لا ينبغي أن تكون في الأساس قضية أمنية.

وبينما يدور الجدل حول احتجاجات الجامعات واتساع رقعتها، وما يصاحبها من عنف الشرطة، خرج علينا مجلس النواب الأمريكي بقانون جديد يمعن في قمع حرية التعبير، ويستهدف شباب الجامعات المحتجين في الأساس.

حيث يساوي القانون بين الانتقادات الموجهة لإسرائيل أو حكومتها فيما يتعلق بالحرب على غزة، وبين الانتقادات الموجهة لليهود التي توصف على أنها معاداة للسامية، بما يجعل مجرد انتقاد جرائم إسرائيل بحق الفلسطينيين فعل يجرمه القانون ويدخل صاحبه تحت طائلة العقاب بتهمة معاداة السامية.

تحول مثير للقلق

الاحتجاجات، التي عمت العشرات من الجامعات في جميع أنحاء أمريكا، يوحدها مطلب مشترك وهو: وقف حرب الإبادة الجماعية في غزة، وبدء المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية ضد إسرائيل والكيانات التي تعمها في هذه الحرب.

لكن الإجراءات الذي اتخذتها الشرطة في جامعة كولومبيا وعدد من لجامعات الأخرى ضد الطلاب المحتجين تشكل تحولاً مثيراً للقلق في الولايات المتحدة التي كان يُشاد بها باعتبارها معقلاً لحرية التعبير والقيم الديمقراطية؛ بينما تتجه اليوم نحو موقف أكثر قمعاً للاحتجاج السلمي، حي لا يتم مواجهة الشباب المتحمس والمعارض للحرب بالحوار أو الخطاب، بل بالعنف والاعتقال وتهديد مستقبله.

ويرى الخبراء أن هذا التحول لا يهدد ركائز الحرية والديمقراطية الأمريكية فحسب، بل يشير أيضاً إلى أزمة أخلاقية عميقة داخل الأوساط الأكاديمية الأمريكية وخارجها.

وهو ما يبرهن على أن الديمقراطية الأمريكية والغربية بشكل عام لم تكن يوماً حقيقة، بل هي مجرد أوهام وأدوات يتم استخدامها وتطويعها وفقًا للحاجة ويتم تطبيقها بشكل انتقائي، وتخضع للضغوط السياسية والمالية من قبل الدوائر السياسية الأمريكية واللوبيات الإسرائيلية الفاعلة في الولايات المتحدة. وبالتالي فإنّ صوت الاحتجاجات لا يُسمع إلا عندما تتماشى هذه الاحتجاجات مع المصالح الأمريكية والإسرائيلية، بينما تغيب كل مفاهيم الحرية والديمقراطية عندما يتعلق الأمر بقضية شعب يعانى من جرائم الاحتلال منذ 75 عاماً، ومن إبادة جماعية مستمرة من 7 أشهر.

ضرب النساء وأساتذة الجامعة

كان من اللافت أيضًا في احتجاجات الجامعات ما تم تداوله من فيديوهات لنساء وأساتذة جامعات يتم التعامل معهن بقسوة وعنف من قبل الشرطة ويتعرضن للضرب والطرح أرضًا والتقييد والاعتقال.

من بين هذه المشاهد مشهد لأستاذة الاقتصاد في جامعة إيمري، كارولين فولين، البالغة من العمر 65 عامًا، والتي انهال عليها عناصر الشرطة ضربًا وتوبيخًا وطرحوها أرضًا، ثم قاموا بتقييدها واعتقالها أمام الكاميرات، غير عابئين بصراخها وهي تخبرهم بأنها أستاذة جامعية، وتؤكد أنها تمارس حقها في حرية التعبير.

هذه الحادثة لم تكن متخيلة قبل 7 أشهر من الآن، فمن غير المعقول أن تتعرض امرأة أمريكية بيضاء وأكاديمية أيضًا لهذه الإهانة على أيدي حكومتها التي تنادي بالحريات واحترام حقوق النساء.

كما تعاملت الشرطة بعنف مع الطبيبة والمرشحة الرئاسية، جيل ستاين، البالغة من العمر 73 عامًا، واعتقلتها عندما كانت تشارك في مظاهرة أقيمت بجامعة واشنطن.

وفي مشهد آخر قالت الباحثة والأكاديمية في جامعة أوهايو، سمية حمضمض، إن 17 عنصر أمن جاؤوا لاعتقالها عقب فض الشرطة اعتصامات نظمها الطلبة في الجامعة، من دون أن يتحققوا من هويتها أو سبب وجودها.

والدكتورة سمية من أصول سورية، ونشأت في سنواتها الأولى بالأردن، وتعيش في الولايات المتحدة منذ 25 عامًا، وتحمل الجنسية الأمريكية، وتعمل باحثة علمية في جامعة أوهايو بمدينة كولومبوس.

وقالت سمية – في مقابلة مع الجزيرة نت – إنها كانت بعيدة عن مكان الاعتصام لحظة اعتقالها، وحاولت توضيح موقفها وسبب وجودها لعناصر الشرطة، لكنهم لم يستمعوا لها، لأن قرار الاعتقال تم اتخاذه وجاءوا فقط لتنفيذه.

كما روت الباحثة الأمريكية تفاصيل اعتقالها، وموقفها القانوني، ورؤيتها للاعتصامات التي تشهدها الجامعات الأمريكية، وتغير موقف كثير من الأكاديميين الأمريكيين من السردية الإسرائيلية، وتحولهم نحو التضامن مع القضية الفلسطينية، وإدانة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.

وفي مشهد آخر نشر صحفي أمريكي مقطع فيديو يظهر لحظة نزع الشرطة الأمريكية حجاب فتاة قال إنها متظاهرة ألقي القبض عليها خلال مشاركتها في اعتصام طلاب جامعة أريزونا.

وقال الصحفي “ديف بيسكوبينج” إنه صوّر الفيديو الذي يظهر نزع الشرطة الأمريكية لحجاب الشابة، مشيرًا إلى أن مصدرًا قانونيًا أفاد بأن الشرطة فعلت ذات الأمر مع 4 فتيات اعتقلن خلال المظاهرة.

كما تم تداول مقطع فيديو ظهر فيه شرطي أمريكي يضغط بحذائه الخشن على عنق شابة لأنها فقط أرادت أن تقول لحكومتها: توقفوا عن تمويل قتل الأطفال والنساء في فلسطين.

وأمام هذه المشاهد العنيفة ضد النساء، يتذكر الناس ويستغربون تصريحات للرئيس جو بايدن يستنكر فيها ما يسميه قمع النساء في العديد من دول العالم.

وجوه خائفة

منذ أن انطلقت مظاهرات الطلاب في الجامعات الأمريكية احتجاجًا على حرب الإبادة في غزة، كان من اللافت أن الطلاب المحتجون يغطون وجوههم إما بالكمامات أو بالكوفية، ويصرون على عدم الحديث مع وسائل الإعلام بشكل مباشر، حتى لا يتم كشف هوياتهم ويعرضهم للانتقام والملاحقة الأمنية.

هذه المشاهد جعلت رواد منصات التواصل الاجتماعي يتساءلون عن سبب خوف الطلاب من الكشف عن وجوههم، ويربطون بين ما يحدث في أمريكا وما يحدث في دول العالم الثالث التي تغيب عنها الديمقراطية.

وتداول نشطاء مقطع فيديو لمغنية أمريكية تدعى “مونتانا تاكر” أرادت أن تجري لقاءات مع الطلاب المشاركين في الاحتجاجات بجامعة كاليفورنيا، ولكن اللافت في المقطع بأن الجميع رفض التحدث إليها، وكانوا يرتدون الكمامات أو الكوفية.

وظهرت تاكر في الفيديو وهي تبكي وتشكو من عدم رغبة أحد من المعتصمين التحدث عليها، زاعمة أنها جاءت إليهم لإجراء محادثات صادقة معهم والتعرف على واقعهم بعد ما شاهدته عنهم في نشرات الأخبار.

وقالت تاكر في منشور لها على صفحتها بمنصة إكس: “قررت أن أذهب لأرى بنفسي ما يحدث في جامعة كاليفورنيا. لقد ذهبت بنية إجراء محادثات صادقة لمحاولة فهم آلام ومعاناة بعضنا البعض حقًا. ومع ذلك، لم يتحدث أحد معي. قالوا لي “يمكنك التحدث مع مسؤول الاتصال الإعلامي لدينا” أو “نحن لا نتحدث إلى المحرضين”.

لكن يبدو أن الطلاب المحتجين لم ينخدعوا بدموع تاكر التي شبهوها بدموع التماسيح، مشيرين إلى أنها معروفة بدعمها لإسرائيل ومعاداتها للفلسطينيين، وأنها كانت تريد فقط توريط الطلاب المتظاهرين وإظهار وجوههم من خلال إجراء لقاءات معهم.

وعلق أحد المتابعين على فيديو تاكر قائلًا: “مسكينة، منهارة. الطلبة رفضوا التحدث إليها والوقوع في فخها.  هل تعلمون سر ارتداء الكمامات والكوفيات والتخفي؟ لأنهم يعلمون أن الشرطة والـ FBI يستخدمون الذكاء الاصطناعي وتقنيات التعرف على الوجوه لكشف هوياتهم، ومن ثم استغلال المعلومات ضدهم”.

ووصف آخرون الطلبة بالأذكياء؛ لأنهم يتظاهرون وهم يعلمون حقوقهم، وكيف يحمون أنفسهم من أي ملاحقة قضائية، أو من مطاردة اللوبي الإسرائيلي لهم من خلال التشهير ونشر صورهم وعناوينهم بتهمة دعم حماس ومعاداة السامية.

وأشار مدونون إلى أن الطلبة منظمون، ويعلمون ماذا يفعلون وكيف يمكنهم الاستمرار في الاحتجاجات والاعتصامات دون أن يستطيع أحد الإضرار بهم.

وعلق آخر على تغطية الطلاب وجوههم قائلًا: “إن الطلاب المسلمين والعرب لديهم تجارب مريرة مع الأمن الذي يستهدفهم ويضيق على حرياتهم وحقوقهم من خلال وضع أسمائهم على قوائم مراقبة الإرهاب، دون أسباب، فما بالك بالمشاركين في احتجاجات الطلاب؟”.

ونشر آخرون نصائح للطلاب حول كيفية تقليل المخاطر التي قد يتعرضون لها أثناء ممارسة حقهم في الاحتجاج مع استخدام الشرطة بشكل متزايد للتكنولوجيا لمراقبة المتظاهرين.

أسوأ كابوس

ورغم كل التجاوزات التي تحدث يرى الكاتب مازن النجار أن انتفاضة الجامعات الأمريكية مرحلة فريدة من نوعها، وأنها ألهمت جماهير غفيرة في الغرب آفاقًا إنسانية وروحية وأخلاقية جديدة.

وقال النجار في مقال على “الجزيرة نت“، إن ما يحدث في الجامعات الأمريكية يطرح بقوة أسوأ كوابيس نتنياهو وحكومته، وهو نزع الشرعية عن إسرائيل، وإدانتها أخلاقيًا، وخاصة لدى أجيال الغرب الشابة، وكان من اللافت أن الاحتجاجات والمظاهرات شهدت مشاركة جيل جديد من اليهود في الغرب، و”رغم أنهم نشأوا في عائلات صهيونية راسخة، إلا أنهم لكنهم تمردوا على السردية الصهيونية لصالح سردية الحق والعدل”.

فيما يرى الباحث في علم الاجتماع، الدكتور عمار علي حسن، أنه “بمرور الوقت سيكسر الشباب في الغرب القيود التي تكبّل المواطن هناك حول إسرائيل، والتي تم فرضها لعقود من الزمن، وتفهموها أو سكتوا عنها، أو لم يعنوا بها من قبل، ولم يفكّروا يومًا في أن يضعوها محل اختبار جادّ وحاسم”.

لقد كشفت الحرب على غزة لهؤلاء الطلاب والشباب زيف ما كانوا يرسخونه في عقولهم ووجدانهم حول ما يحدث في الشرق الأوسط والموقف الأمريكي والغربي منه، وأدركوا أن أموال الضرائب التي يدفعها عامة الناس بدلا من أن تذهب إلى القطاعات الخدمية التي من شأنها تحسين الأوضاع الاجتماعية، وجدوها تذهب لشراء مختلف أنواع الأسلحة والعتاد، ودعم إسرائيل بها لتستخدمها في ضرب شعب يئن تحت الاحتلال منذ ثمانية عقود، فيما يتم إجبارهم على ترك مدنهم وقراهم ويصبحوا لاجئين تعمل الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية على إعالتهم وتوفير إمدادات الغذاء والمياه لهم، والتي لا تمر إلا بموافقة إسرائيل.

كما رأوا أمريكا وهي تعطل عدة قرارات لمجلس الأمن  تطالب بوقف القتال وعدم استهداف المدنيين، كما أفشلت قرارًا يدعو إلى أن تكون فلسطين دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة استنادا إلى القرارات الدولية بخصوص حل الدولتين.

كل هذا دفع الطلاب في أمريكا إلى تقدم الصفوف للاحتجاج على جرائم إسرائيل في غزة، والدعم اللامحدود الذي تقدمه الإدارة الأمريكية لحكومة نتنياهو المتطرفة، ويبدو أن الشباب سيكونون البداية لموجة من تصحيح الوعي لدى الرأي العام في أمريكا والغرب، الذي تعرض على مدى قرون لعملية غسيل الأدمغة التي يقوم بها الإعلام الغربي المنحاز لإسرائيل.

تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى