رأي

عن تفسير (العلماء).. من قصص الفساد المليونية في سوريا

بقلم: د.عارف دليلة، الخبير والمفكر السياسي والاقتصادي السوري

هناك علماء مسلمون تحدثوا منذ قرون عن كروية الأرض، وحتى كلمة (دحاها) تفسر بأنه (كورها) مثل الدحل، وليس بسطها أو سطحها، وهذا مختلف عن تفسير (العلماء!).. وحول من هم “العلماء” لديهم أورد المناسبة التالية:

في أواخر الثمانينات غار رئيس اتحاد العمال السوري، أحد غير المغفور لهم، عز الدين ناصر، المعين من قبل معلمه كأحد الأعضاء الخمسة الدائمين في لجنة انتقاء الوزراء عند أي تشكيل وزاري جديد تقوم به القيادة القطرية في الحزب (القائد للدولة والمجتمع “الى نحرهما”)، غار من شعبية “ندوة الثلاثاء الاقتصادية” الأسبوعية التي كنا – جمعية العلوم الاقتصادية – نقيمها في المركز الثقافي بالمزة، والتي كنت محركها المعارض، كمنبر وحيد علني في سورية لتفسير الوقائع علميًا ولانتقاد وفضح الارتكابات والمرتكبين، ليس في الاقتصاد فقط، بل في الإدارة الحكومية عموما بما في ذلك السياسات العامة.

د. عارف دليلة

وكان هو أحد أهم مدمري وحرامية القطاع العام الذي كنت أفضح دائمًا الممارسات التخريبية فيه وفي الاقتصاد عمومًا، فاتصل بي والتقينا، وقال: أريد أن أنظم في اتحاد العمال ندوة شهرية كل أول سبت من كل شهر  مثل “ندوة الثلاثاء”، فاقترح لنا برنامجًا لـ12 ندوة خلال سنة بما فيه تحديد العناوين وأسماء الأساتدة المحاضرين.

فقلت: يجب أن نبدأ أولا بالمسؤولين لكي يقدموا من وجهة نظر السلطة خريطة الوضع العام بالبلد، ثم يتلوهم الخبراء والأساتذة الاقتصاديون، واقترحت أن نبدأ برئيس المكتب الاقتصادي القطري، رئيس مجلس الشعب، عبد القادر قدورة (وكان الشريك الكبير له في نهب وتدمير الاقتصاد السوري بنشر الفساد وتصنيع الفاسدين، وكانا من بين المساعدين لمحمد مخلوف معلم كل الفاسدين، ومنهم أيضًا محمد حيدر، حصان طروادة الفساد في سورية، في النصف الأول من السبعينات، إلى جانب عبد الحليم خدام، الذي طار منذ أيام بدون ملياراته وقصوره، مثل رفيقيه الذين سبقوه مصطفى طلاس وحكمت الشهابي، وكثيرون جدًا ممن أخرجوا سورية من الجغرافيا والتاريخ، وهذه العبارة اعتدت أن استخدمها في التحذير من الانجرار إلى ما وصلنا إليه الآن!)،

كان موعد محاضرة صاحب الصوت الجهوري (الذي كان يسير أمام أمين الحافظ أثناء خطاباته الجماهيرية الثورية، ويقدمه في المناسبات عندما كان طالبًا في كلية العلوم)، قد تحدد يوم السبت في مطلع نيسان من عام 1987، لكن عبد القادر، لاحقًا لإعلان الموعد، خمن جيدًا بأنه سيكون قبل أسبوعين من انتخابات مجلس الشعب الذي يتولى رئاسته إلى الأبد، وقد يتعرض إلى بهدلة تهز صورته كأحد المقدسين (!)، ففاجأ الجمهور الذي تقاطر إلى قاعة اتحاد العمال في المساء الموعود (مقابل فندق الميريديان)، بالاعتذار وتأجيل المحاضرة بسبب الانشغال!

وبعد الانتخابات التي” فاز” بها، كالعادة، بأكثر من 600 ألف صوت (ليس من بينها أصوات حقيقية أكثر من مائة) ليأتي في السبت التالي، كالطاووس، ويلقي المحاضرة عن (التطورات الاقتصادية والاجتماعية في سورية بعد ثورة الثامن من آذار)، وكأنه يسبح في بحر النعيم!

وكانت مناسبة، وفيها قيل الكثير أمام حشد من المسؤولين ورجال القطاع العام والحزبيين والجمهور!

وكان، بعد المحاضرة، تعليقي طويلًا أيضًا! وقد قلبت فيه معظم ما عدّه المحاضر من الانجازات غير المسبوقة إلى إخفاقات ونفايا فساد وتدمير هادف وواع ومقصود!

قال، مثلًا، إن الطبقة البرجوازية في سورية كانت قد هرّبت إلى لبنان 700 مليون دولار قبل الثامن من آذار!، قلت: وهل يرضى مساعد في مكتبكم اليوم هذا المبلغ؟

قال: الدكتور عارف يتهمنا دوما بالفساد!، الفساد موجود في كل دول العالم. ففي بلد الشيوعية الأول، الاتحاد السوفييتي العظيم، منذ أيام أقال زعيمه غورباتشيف بعض المسؤولين والوزراء، وحاكمهم بتهمة الفساد، وأعدم البعض منهم، وسجن آخرين بتهم الفساد!.

قلت: إنكم تعشقون تقليد الاتحاد السوفييتي، والتشبه به في كل صغيرة وكبيرة، فلماذا لا تقلدوه وتتشبهوا به أيضًا بهذا الذي تفاخر به الآن، فتعزلوا وتحاكموا وتعدموا بعض المسؤولين المشهود لهم بالفساد الكبير؟

قال الكثير وقلت الكثير، وبعد أن تحدثت عن انحطاط العلم، والحط من العلماء الحقيقيين وأصحاب الرأي والضمير في بلادنا، ختمت كلامي وقلت: في بلادنا تطلق صفة العلم والعلماء فقط على نوعين من الناس، وهم الأكثر ابتعادًا عن ومعاداة للعلم والعلماء، فـ”العوالم” هن الراقصات السمينات المدججات، اللواتي تختتم السهرة بوصلتهن، بعد انتهاء وصلات الراقصة الرشيقة الشهيرة في حفلات الرقص في الكباريهات في آخر الليل!

و”العلماء”، وهي الكلمة التي نسمعها يوميًا عشرات المرات في إعلامنا، فلم تستخدم يومًا في وصف عالم حقيقي مبرز، ولدينا منهم الكثيرون في جميع الميادين، ولكنهم يتعرضون بشكل مقصود ومخطط إلى التهميش والتجويع والتحقير والإذلال، ولا تطلق هذه الكلمة إلا على فئة من الناس، ممن لا تفتأون تقربون وتكرمون، وهي الألد عداءً للعقل والعلم والعلماء الحقيقيين!،

وهكذا انتهت الندوة الأولى في البرنامج السنوي للإثنى عشرة محاضرة المعلن!، إلا أن رئيس اتحاد العمال، المضيف للندوة، لم يكن حاضرًا، لأنه كان بالخارج في إحدى غزواته بإحدى العواصم الاشتراكية، ولما كان يتوقع أن تنعكس عليه الندوة بسيل من التهاني والمدائح والتبريكات من قبل الرفاق فقد اتصل، بعد انتهاء الندوة، يسأل عن مجرياتها، فأخبروه بالتفاصيل، فلم يوفر شتائمه ولعناته لحين العودة، وإنما صبها على الهاتف مباشرة، موجهًا أشنع الاتهامات لي شخصيًا بكذا وكذا، واتخذ قرارًا فوريًا بوقف الندوات الموعودة في اتحاد العمال!

هذه إحدى قصص الفساد المليونية في ألف ليلة وليلة في البلد المنكوب سورية!


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس وجهة نظر الموقع


تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى