الراديو

عصفور من الشرق – ماجدة صالح.. أول راقصة باليه مصرية

لماذا أنهت فراشة الباليه رحلتها الصعبة في مصر واستقرت في أمريكا؟

راديو صوت العرب من أمريكا

أجرى الحوار: ممدوح زكي

أعده للنشر: هارون محمد ومروة مقبول – تحرير: علي البلهاسي

قد لا يعرفها الكثيرون.. لكن التاريخ سيظل يذكرها كلما جاء ذكر فن الباليه في مصر.. إنها الفنانة ماجدة صالح، أول راقصة باليه مصرية، التي كانت ضيفة الإعلامي ممدوح زكي في برنامجه “عصفور من الشرق”، على راديو صوت العرب من أمريكا.

نشأت ماجدة صالح في القاهرة لأم اسكتلندية وأب مصري، وبدأت تعلم الباليه في سن مبكرة، حيث التحقت بالمعهد الموسيقي في الإسكندرية، والذي كان يضم قسمًا للباليه يشرف عليه معلمون من الأكاديمية الملكية البريطانية وتديره سيدة إنجليزية.

ونظرًا لتفوقها في التدريبات قررت السيدة الإنجليزية أن تبعثها في منحة لتعلم الباليه في مدرسة الفنون بالمملكة المتحدة، لكن بعد شهرين فقط من سفرها حدث العدوان الثلاثي مما أجبرها على العودة.

بعدها جاء مدرس من “بولشوي” للقاهرة ليفتتح مدرسة لرقص الباليه، وتقدمت ماجدة لها، وتم قبولها بجانب 30 طالبًا آخرين. وكانت ماجدة من بين 5 راقصات باليه تم إرسالهم إلى موسكو لمدة عامين ليدرسوا في أكاديمية بولشوي للباليه، وتخرجت في 1965.

وفي العام 1966 كانت دار الأوبرا في القاهرة على موعد مع أول عرض باليه مصري بعنوان “نافورة بختشي سراي”، شاركت فيه ماجدة مع 4 فتيات مصريات، وحصلت بجانب زملائها على وسام الجدارة من الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر.

بعدها بدأت ماجدة صالح تُعرف كأول راقصة باليه مصريّة، ورائدة لهذا الفن الذي بدأت بذوره في أواخر الخمسينيات مع تأسيس معهد الباليه على يد وزير الثقافة المصري وقتها ثروت عكاشة.

وتم اختيار ماجدة من قبل فرقة “البولشوي” الروسيّة لمشاركتها في أحد عروضها. ثم قامت بأداء مختلف العروض قبل أن تُجبر على الاعتزال غير الرسمي بسبب حريق الأوبرا في 1971، لتسافر بعدها إلى لوس أنجلوس لتدرس الرقص الحديث في جامعة كاليفورنيا، حيث حصلت على الماجستير، وأكملت دراستها لتحصل على الدكتوراه من جامعة نيويورك.

وعندما عادت ماجدة إلى مصر كان لها تجربتان مؤلمتان، فقد بدأت بالعمل كمعلمة في معهد الباليه بكلية الفنون، لكنها استقالت بعد حرب خاضتها لإحياء فن الباليه الذي تم تدميره في مصر في هذا الوقت.

وفي 1987 بدأت تسعى لتحقيق حلم بناء أوبرا جديدة، فبدأت المفاوضات مع السفير الياباني، ونجحت في توفير الدعم المادي والفني للأوبرا، لكن بسبب خلافات مع وزير الثقافة وقتها  فاروق حسني تم إبعادها من رئاسة الأوبرا قبل افتتاحها وتعيين رتيبة الحفني بدلاً منها.

بعدها عادت ماجدة إلى كلية الفنون، قبل أن تقرر العودة إلى أمريكا والتدريس في جامعة نيويورك في قسم الرقص، وهناك قابلت زوجها المؤرخ الفني “جاك جوسيفسون”.

وبالرغم من هجرتها إلى أمريكا منذ عام 1992 بقيت قريبة لبلدها الأم مصر، وأعلنت اعتزالها رسميًا عام 1993 بسبب مشكلة صحية في ظهرها. وفي مارس 2018 كرّمتها فرقة الرقص والمسرح “From the Horse’s Mouth”، في نيويورك.

مجازفة اجتماعية

* في راديو صوت العرب من أمريكا كنا على موعد مع الأصالة والعراقة وزمن الفن الجميل، مع الفنانة والدكتورة ماجدة صالح.. بداية نود أن نعرف كيف اتخذت قرارك بدراسة فن البالية رغم عادات وتقاليد المجتمع المصري وقتها ومن ساعدك في اتخاذ هذا القرار؟

** دائمًا أقول “لست أنا من أختار فن الباليه، فهو الذي اختارني”. فقبل إنشاء مدرسة الباليه عام 1958 والتي أصبحت فيما بعد المعهد العالي للباليه بأكاديمية الفنون ووزارة الثقافة، كان هناك استوديوهات خاصة. فأنا بدأت دراستي فن البالية في استوديوهات بالقاهرة وفي الإسكندرية.

وبعد إعلان افتتاح مدرسة حكومية لدراسة الباليه لأول مرة في تاريخ مصر والشرق الأوسط برعاية وزارة الثقافة قمت بتقديم أوراقي. وكان أول أستاذ لنا من الاتحاد السوفيتي، وكان راقصًا من فرقة باليه البولشوي الشهيرة اسمه الكسيجوكوف، وهو الذي أنشأ المدرسة من الأساس.

والحقيقة أن أولياء أمورنا شجعونا، وأمام إصراري القوي على دراسة الباليه اقتنع والدي، وقال لي ناصحًا: ” فن الباليه هذا فن صعب ويعتمد كليا على سلامة الجسم، وأي شيء يضر الجسم سينهي مصيرك كراقصة باليه”. وعلى أية حال فإن عمر فنان الباليه قصير إلى حد ما، تمامًا مثل عمر لاعب الرياضة.

وأخبرني والدي الدكتور أحمد عبد الغفار صالح، وكان رائد التعليم الزراعي بمصر، أن قرار تركه  لي لمتابعة حلمي بأن أكون باليرينا هو بالنسبة له كأب مصري “مجازفة اجتماعية قوية”،

الحلم يتحقق

واصلت أنا وصديقاتي سعينا لتحقيق الحلم، وأتاحت لنا وزارة الثقافة تلك الفرصة، ولعبت الظروف دورًا كبيرًا في مساعدتنا على تحقيق هذا الحلم، حيث كنا محظوظين بوجود الدكتور ثروت عكاشة أول وزير ثقافة في مصر والذي أنشأ وزارة الثقافة، وهو رجل مثقف ونبيل وابن عظيم من أبناء مصر،. حيث تابع إنشاء أكاديمية الفنون بمعاهدها، وكان مُحبًا لفن الباليه، كما كان يتابعنا شخصيًا.

وكانت الدراسة في المعهد تعتمد على النظام الأكاديمي الروسي الشهير الذي تمتد مدته الدراسية إلى 9 سنوات لتخريج راقص باليه. ففي كل سنة كانوا يقومون بضم سنة دراسية إضافية بكل موادها لتكتمل الـ 9 سنوات الخاصة بالنظام الأكاديمي.

وفي السنة الخامسة قامت وزارة الثقافة السوفيتية بإرسال 5 منح لدراسة فن الباليه في مدرسة البولشوي الشهيرة. وكنا في صفي خمس بنات، فأرسلونا جميعًا إلى موسكو في عام 1963 لندرس فن الباليه هناك. وكانت الدراسة هناك بشكل مكثف ومضغوط لكي تكون هناك نتيجة أسرع للتخرج، فدرسنا 7 سنوات ثم عدنا إلى مصر وبحوزتنا شهادات الدبلوم من مدرسة البولشوي.

أول باليه مصري

عدنا من روسيا ونحن جاهزات للعمل، فقد أصبحنا فنانات محترفات رسميًا، ونريد أن نرقص ونصعد على خشبة المسرح الذي هو مكاننا الطبيعي، و لم تكن المدرسة المصرية قد أخرجت أي طالب بعد. فأول تخرج من المعهد كان بعد 9 سنوات أي عام 1967.

وبفضل إصرارنا على الصعود على خشبة المسرح وتشجيع الدكتور ثروت عكاشة ورعايته لنا، قدمنا في عام 1966 أول باليه مصري كامل مكون من 4 فصول في دار الأوبرا المصرية القديمة التي كانت الأوبرا الخديوية.

وكان الافتتاح في 4 ديسمبر، وأتذكر أن الدكتور ثروت عكاشة حضر لنا وراء الكواليس وأخبرنا أنه طلب من الرئيس جمال عبد الناصر حضور العرض، وحضر الرئيس بالفعل في اليوم الثاني مع حرمه والدكتور ثروت عكاشة وكانوا جالسين في البنوار المجاور للمسرح، وشاهدناهم ونحن نقوم بالعرض، وكنا فرحين وفخورين بحضور الرئيس.

وكان رد الفعل جميلًا ورائعًا، فلأول مرة في تاريخ مصر منح الرئيس عبد الناصر أوسمة لراقصين، فقد حصلت أنا وزميلاتي على وسام الاستحقاق لأدائنا في أول عرض باليه قومي في مصر، وكان هذا مصدر فخر لأن كل المشتركين في العرض مصريون من بداية المجاميع وحتى الراقصين الأوائل، ماعدا خمس راقصات بالية من البولشوي، وكان بيننا مشاركون لا يزالون طلبة في المعهد بسنوات دراسية مختلفة.

* علمنا أن الفرقة سافرت بعدها إلى أسوان للاشتراك في الاحتفالات بمناسبة انتهاء مرحلة من مراحل بناء السد العالي، كيف تعاملتم مع ذلك الأمر، خاصة وأن الفرقة كانت وليدة، وليس لديها تجارب ولا رصيد فني معروف لدى الجمهور؟.

** هذه العملية كانت مخاطرة بالنسبة لنا بالتأكيد، وشعرنا بالخوف لأن القاهرة فيها ثقافة وفيها مسارح ولكن أسوان يوجد بها أثار وسد فقط. لذا ذهبنا وكنا خائفين من ردود أفعال الناس، ولكن ما حدث أنهم أحبوا فن البالية الذي قدمناه بالذات، لأن له طابع شرقي وكان مفهومًا وواضحًا وسهلاً بالنسبة لهم.

كان اسم البالية نافورة “باخشي سراي”، وهو بالية سوفيتي تم تصميمه في الثلاثينات، ومبني على شعر من أشعار الشاعر الكبير الروسي بوشكن لقصة “خان” تتاري من القرم هاجم بولندا، وكان من ضمن الأسرى الذين قام بحبسهم أميرة بولندية، وأحبها وأحضرها إلى القصر مع حريمه. ولكن زوجته المفضلة غارت منها وقتلتها فأعدم زوجته، واستمر بالبكاء ولكن دموعه لم تكفي فأمر ببناء نافورة تبكي له مدى الحياة وعلى الدوام.

ويقال أن هذه القصة حقيقية، والنافورة هذه لازالت موجودة في باخشي سراي في القرم. كما يقال أنه يتم وضع وردتين كل يوم رمزًا للحب الأول والحب الثاني لهذا الخان الذي أضاع حبه. وقد أعجب الجمهور في أسوان بالأداء، ومن شدة الإعجاب قاموا في نهاية المعركة في الفصل الأول عندما قام التتار بالسطو على قصر البولنديين، ووقف مشاهد وقال “الله أكبر” وبعده وقف الجمهور كله.

تمصير الباليه

* أفهم من كلامك أن هناك نقاط تلامس بين فن الباليه والفن الشعبي المصري؟

** كل هذا يعتمد على التصميم المصري، فقد كان دورنا هو تمصير فن الباليه، حيث قدمنا الأعمال العالمية بشكل أقرب للجمهوري المصري. وبعد نافورة “باخشي سراي” قدمنا باليه “جيزال”، وهو بالية رومانسي من العصر الرومانسي في القرن 19، وهو أول باليه فتح دار الأوبرا المصرية بعد افتتاح قناة السويس. كما قدمنا “كسارة البندق”  “دون كي شوت”، “دون جوان” و”دافنس مايكروا وي” وغيرها من الأعمال.

وبدأ الجمهور المصري يقول “وماذا يمكن أن تقدموا لنا كمصريين؟، فنحن لنا تاريخ عظيم ولنا أساطير. ومن هنا بدأ الاهتمام بالفن الشعبي المصري، كأعمال الفنان محمود رضا وفريدة فهمي وفرقتهم الشهيرة فرقة رضا، وهذا كان في عام 1959 على ما أظن، لأن محمود رضا في أول سنة دراسية لنا كان يحضر حصص الأستاذ ألكسيجوكوف، وبعدها فوجئنا بالعرض الأول لفرقة رضا، وأصبحت فيما بعد فرقة أسطورية.

وكان الأستاذ محمود رضا قد قام بأعمال ميدانية، وزار مناطق ثقافية مختلفة في مصر، وحضر الرقصات وسجلها، واقتبس منها الرقصات التي قدمها على خشبة المسرح فيما بعد. وبعدها جاء تأسيس الفرقة القومية، ثم الفرق المحلية في المحافظات، ثم انتشرت فكرة تقديم الرقص الشعبي أو الفن الشعبي المصري على خشبة المسرح.

ونجد أن البالية يقتبس من الرقصات الشعبية لبلدان مختلفة لأداء بعض الرقصات، فمثلا باليه ” دونكي شوت” مليئة برقصات اسبانية شعبية، بالية “الحصان الأحدب” هو باليه روسي مكون من رقصات شعبية روسية، فممكن أن يكون هناك مزج بين فن الباليه والاقتباس من الرقصات الشعبية المصرية على أشكال مختلفة.

بين روسيا وأميركا

* رغم أن بدايتك وتعليمك كان في روسيا إلا أن رسالة الماجستير والدكتوراه حصلتي عليها من الولايات المتحدة الأميركية، فهل تناول فن البالية يختلف من دولة إلى أخرى؟، وهل كنتِ تطمحين بأن تحصلي على الماجستير والدكتوراه في روسيا استكمالا لدراساتك الأولى؟

** لا فأنا التي قررت السفر إلى الولايات المتحدة وكانت لدي أسباب لذلك. فقد كنا في كل سنة نضيف رقصة باليه جديدة إلى حصيلة الباليهات التي كنا نقدمها كل سنة. وفي وسط التقدم والنجاح والمستقبل الذي كنا نعتبره مشرق ومبتسم وكله تفاؤل، حدث شيء أعادنا إلى الوراء وهو حريق دار الأوبرا.

فنحن لم نخسر دار الأوبرا فقط، بل خسرنا مقر ومنبع ومصدر الحياة الثقافية. فلم تكن الأوبرا محور الثقافة في مصر فحسب، وإنما في كل المنطقة. وكانت منارة ثقافية، وها هي منارتنا انطفأت، فركضنا نحن الفنانين إلى دار الأوبرا ووقفنا نشاهد أحلامنا وهي تحترق وتنهار. وبعد ذلك تأثرت البيئة الثقافية كلها سلبًا بسبب ضياع هذه المنارة. وتم بناء دار أوبرا جديدة بعد 17 سنة.

وكان زملائي من خريجي معهد البالية قد سافروا إلى روسيا، وعند عودتهم عادوا بألقاب الدكتوراة والماجستير، ونصحتني والدتي وقالت لي: “لا توجد “فرقة باليه” في مصر، فأين سترقصون، لابد أن تغيري مسار حياتك، وإن كنت تحبين أن تستمري بفنون الرقص فعليكِ بالمسار الأكاديمي كزملائك”، فقلت لها إنني سأفكر في هذا. والسبب الثاني كان مشكلة شخصية، فقد كنت أعاني من مشكلة في عضلات قدمي تسببت بآلام شديدة لم أستطع معها أن أكمل بهذه الحالة.

تتويج واعتزال

كان تتويج حياتي الفنية على خشبة المسرح بزيارة للاتحاد السوفيتي بدعوة من وزارة الثقافة السوفيتية لي ولزميلي عبد المنعم كامل، فقد دعينا للأداء مع الفرق المقيمة في مسارحهم القومية. ورقصنا على رقص فرقة “البولشوي” في مسرح “البولشوي” في موسكو، ورقصنا على مسرح “الكيروف” في لينينغراد مع الفرقة التي تسمى حاليا “بالمارينك”، وهذا كان تتويج حياة فنية.

وكانت آخر رقصة باليه في حياتي هي باليه “جيزال” على خشبة المسرح، فبعدها قررت الاعتزال والانتقال إلى أميركا، لأني أحببت أن أوسع أفق مفهومي لفن الرقص عامة، بالنسبة للمسرح وبعيدًا عن المسرح.

وبالنسبة للبشر فالجميع يرقص، فأحببت أن أعرف ما هو فن الرقص؟، وهل هو فن أم هو سلوك بشري اجتماعي؟، ودرست الرقص الحديث الأميركي في جامعة كاليفورنيا، كما حضرت بجامعة نيويورك وتخرجت من هناك برسالة دكتوراه عن تسجيل الرقصات الشعبية المصرية.

تجربة التمثيل

* تجربتك في السينما في فيلم “ابنتي العزيزة”، هل كانت قبل اعتزالك للباليه أم بعده؟

** كانت قبل اعتزالي للبالية في عام 1970.

* رغم تلقائيتك وأدائك المميز بالفيلم الذي كان يوحي ببطولة ونجومية، إلا أنك لم تكرري التجربة مرة أخرى، مع العلم أن الفيلم حقق نجاحًا كبيرًا؟

** صحيح، الفيلم نجح كثيرًا، وكان يعرض 3 أو 4 مرات في السنة، وهذا ما قيل لي، فأنا لم أشاهده وقتها، فقد كان هذا في عام 1970.

* كان الفيلم مع نجوم مثل الفنان رشدي أباظة والفنانة نجاة والفنان عمر خورشيد، فلمَ لم تكرري التجربة؟

** بالفعل لم أكرر التجربة رغم أنها كانت جيدة جدًا. وهناك مشهد شهير لي في الفيلم وهو مشهد طبق الجمبري الكبير الذي أكلته وحدي وأنا أنتظر انتهاء رشدي  أباظة ونجاة من الرقص، وبعد عرض الفيلم تساءل الناس عن ما إذا كنت قد أكلت كل هذا الجمبري الموجود في المشهد بالفعل أم لا؟، فكنت أرد “لا”، فبعد أن كنت أنتهي من كل لقطة، كان الفريق الموجود وراء الكاميرات يأتي ليأكل من طبق الجمبري حتى تناقص تدريجيًا إلى أن انتهى.

وقد تضمن هذا الفيلم الرقصة الوحيدة المسجلة لي، وهي الرقصة الاسبانية “لكسارة البندق” التي كانت مشهورة في هذا الوقت. وعلى أية حال كانت تجربة جيدة، لكني لم أكررها لأني سافرت إلى أميركا.

*بالتأكيد كانت الأجواء جميلة، فقد كنت في عز شبابك ونجوميتك، وكان الفيلم يحتوي على سحر وتلقائية وجمال، أليس كذلك؟

** صحيح، وهذا من وجهة نظر الجمهور أيضًا. ولكن بالنسبة لي لم تكن تلك هي التجربة التي كنت أتوقعها حسب مفهومي للاستعداد لأداء دور في السينما. فلم أكن أعلم من سأكون بالفيلم وما هي القصة؟ واضطررت أن أقف أمام الكاميرا وأقوم بإخراج مشاهدي بنفسي، سواء من حيث طريقة وقوفي أمام الكاميرا أو أدائي للنص. فكان يقال لي وأنا أضع المكياج بأن دوري سيكون مع فلان وعلي أن أرد بكذا وكذا، فحفظت ما يجب أن يقال وقمت بذلك.

ولم يكن هذا تصوري للاستعداد لدور في الفيلم، لأننا في الباليه لكي نستعد لدور نأخذ تدريبات دقيقة يوميًا لمدة شهور، فلم يكن انطباعي حول التجربة إيجابيا كثيرًا، ولكنني كنت سعيدة جدا بهذه التجربة فقد حقق الفيلم نجاحًا كبيرًا.

*لكنها بلا شك مثلت توثيقًا لكي في هذه المرحلة كفنانة ومبدعة، وهذا شيء يحسب في تاريخك الفني، صحيح؟

** كانت هذه خطوة جانبية جربتها ثم عدت لمساري الأصلي.

الفنون الشعبية

* رسالتك للدكتوراه كانت عن تسجيل الرقصات الشعبية المصرية، كيف رأيت هذا التراث الفني المصري الأصيل؟

** بمناسبة الفنون الشعبية أحب أن أخبرك بصداقتي مع رجل يحب مصر والفنون المصرية وكرس حياته كلها للحفاظ على الفنون الشعبية المصرية الأصيلة والتعريف بها، وهو الأستاذ عبد الرحمن الشافعي المخرج والكاتب والمؤلف المعروف، وهو رئيس فرقة موسيقى النيل أو مهرجان النيل أو فرقة الموسيقى التقليدية، فهي لها العديد من الأسماء المختلفة.

وهو الذي تولى هذه الفرقة بعد زكريا الحجاوي، حيث كان يتنقل بين المحافظات والقرى ليكتشف المواهب الفريدة في الأداء والغناء والعزف على الآلات، والذين أصبحوا حاليًا عمالقة الفن الشعبي المصري. فقد كان أول ظهور لهم تحت رئاسته في السبعينيات، وكان لقائي بهم في الولايات المتحدة بمناسبة العيد المائتين لتأسيس الولايات المتحدة.

وكان في مجمع المتاحف القومية الأميركية، مركزًا للفنون الشعبية ضمن المتاحف، والذي يقوم بأعمال تسجيلية اثنوجرافية هامة جدًا تهتم بالفنون الشعبية التي أتت إلى أميركا واستقرت  فيها مع المهاجرين من الدول المختلفة التي تشكل الشعب الأميركي. فتم دعوة الدول المساهمة في تكوين الشعب الأميركي بأن تشترك في مهرجان كبير هناك، وكانت مصر من بين هذه الدول.

وقد تم إرسال الموسيقار والباحث حليم الضبع إلى مصر كباحث ميداني، وتم اختيار مجموعة من الفنانين الشعبين ليحضروا المهرجان، ولكن السفارة اعترضت لأن الذين تم اختيارهم أناس بسطاء، وكانوا يخشون من أن تتعرض السفارة للإحراج بسببهم أمام الآلاف من الجمهور الأميركي. وكان حليم الضبع قد رشحني كمقدمة للبرنامج، فأتصل بي رئيس مركز الفنون الشعبية، وسألني عن فرقة رضا، فقلت له أنها فرقة رقص شعبي مصري مسرحي، ولكنه رفض الرقص المسرحي، فأتت الفرقة المكونة من الفنانين الشعبين اللذين أختارهم الأستاذ حليم مع الأستاذ عبد الرحمن الشافعي.

ولا أنسى أول يوم أتوا فيه إلى الحديقة العامة، وعندما شاهد الأستاذ عبد الرحمن المساحة الطويلة والعريضة في “واشنطن مول” التي فيها عشرات الخيم التي تمثل البلاد المختلفة، تساءل كيف سيستطيع جمع كل هذا الكم الكبير من الناس، وعندها واتته فكرة عبقرية، حيث قال “هنعمل زفة”. وجمع المجموعة وقال لهم طبلوا وزمروا وأنا العريس والدكتورة ماجدة هي العروسة”، وعملنا زفة ومشينا في حديقة “واشنطن مول” وجمعنا كل الناس، وتبعونا حتى الخيمة التي خصصت لمصر. ولمدة أسبوع كانت هذه الخيمة مليئة بالناس، وكان هذا نجاح عظيم، حتى أنهم قالوا إن مصر هي الدولة الأولى المفضلة لدى المشاهدين، فكان نجاحًا باهرًا.

وعلى ما أذكر أنه في أول اليوم كانت هناك امرأة مصرية من الجمهور، فنادتني وقالت لي “أنتِ التي أحضرتِ هؤلاء الناس؟”، قلت لها “نعم، أنا مشتركة مع المجموعة”، فقالت غاضبة “معرفتيش تلبسيهم جزم أو حتى بنطلونات”، قلت لها “لا”، فهم يؤدون هذا بفطرتهم”، والمفارقة أن هذه السيدة كانت في آخر اليوم هي أول امرأة نقف أمام المسرح تزغرد وتصفق وهي سعيدة برد فعل الجمهور، فلابد أن نرى أنفسنا من خلال أعين الآخرين .

همزة وصل

* تم تكريمك هذا العام في الولايات المتحدة بعرض فيلمين عن فن الباليه وعن دورك في هذا الفن. وسؤالي عن كونك أحد عناصر قوة مصر الناعمة، هل من الممكن أن تكوني سفيرة لمصر في الخارج؟، وهل من الممكن أن يكون لك دور في دعم السياحة والعديد من الصناعات؟، بمعنى آخر هل يمكن أن تكوني همزة وصل بين مصر والدول الأخرى؟

** سؤال صعب ومحرج إلى حد ما، لأن ردي عليه يمكن ألا يعجب بعض الناس. فمصر ثرية ومليئة بالمواهب، ونحن نكلف أكاديمية الفنون أن تنمي وتربي وتصقل هذه المواهب، ولكن بعد ذلك لا نستغل هذه المواهب، ولا نقوم بدعمها في الإعلام العالمي.

وإلى الآن من يخرج فقط يخرج بجهوده الذاتية، وأنا أتحدث عن فنانين نجحوا بجهودهم الفردية في تحقيق نجاح خارج مصر، ولا أتحدث عن سفير لمصر مثل فرقة رضا في السابق أو الفرقة القومية، فقد مرت فترة لم أرهم فيها، ولا أعلم ما هو مستواهم الحالي، لكن هذه الفرق لفتت نظر العالم.

وفي التكريم الذي تم لي هنا في أمريكا أصريت على ذكر الفنانة فريدة فهمي، وحضور الأستاذ محمود رضا، فقد كانا خير ممثل لمصر في العروض الزاهية والبهيجة التي طافوا بها العالم. وقد اضطررت أن أتصل بامرأة في أستراليا حتى تساعدني في التواصل مع الأستاذة فريدة فهمي، حيث لم أكن أستطيع التواصل معها لمدة 50 سنة، فهناك مد ثقافي حضاري لفرقة رضا والفرقة القومية، والرقص الشرقي المصري موجود في العالم كله وله شعبية كبيرة جدا من آسيا إلى أوروبا وأميركا وأستراليا.

أما بالنسبة للفنون الكلاسيكية العالمية، والتي أنشأنا لها أكاديمية فنون، فأوركسترا القاهرة وفرقة الباليه لم يصلا إلى المستوى الذي يسمح لنا أن نقدمهم في الخارج، ولكن لدينا أفراد على مستوى عالمي مشرف. ومؤخرا برزت الفنانة فاطمة سعيد، سوبرانو الأوبرا، وفازت بأكثر من مسابقة عالمية، وظهرت مؤخرا على خشبة مسرح “لاسكالا دي ميلان”، وهي نموذج للفنانة الناجحة بجهود فردية، والسؤال هنا: هل وزارة الثقافة دعمتها؟، وهل وزارة الثقافة ودار الأوبرا يؤديان دورهما في هذا الأمر بالفعل؟.

دور الدولة

* جميعها مجهودات فردية، ولا توجد جهة تساهم في صناعة النجم التي تحتاج إلى الدعم والمال والتواصل وأشياء أخرى، فلابد من وجود مؤسسة كبيرة بحجم وزارة الثقافة وبحجم الدولة المصرية لدعم هؤلاء الفنانين.

** ليس المطلوب فقط أن نرسل الفنانين بعثات للخارج، ليأتوا بعدها إلى مصر، ويعرضوا فنهم محليًا، أو يتم نسيانهم وخبو نجمهم وفنهم، فهذا خطأ. فمثلا نحن في حياتنا الثقافية بعد حريق الأوبرا الذي حدث كانت المراكز الثقافية في السفارات المختلفة هي التي تهتم بأن تستورد منا فنانين وعروض، ولعبت هي الدور في إحياء حياتنا الثقافية بدرجة كبيرة جدًا، وكانت همزة الوصل لنا مع الخارج، لأننا كنا منعزلين وقتها.

وقد طلبت من أحد المسئولين أن ندعو السفراء الأجانب، ونقول لهم “إننا نشكر مساهمتهم في حياتنا الثقافية في القاهرة والإسكندرية وفي المراكز الثقافية المصرية، ونريد أن تسمحوا لفنانين منا أن يعرضوا فنهم في بلدانكم”، أي تصدير الفنون المصرية الشعبية وغير الشعبية، وأنا أتحدث عن الفنون الغربية التي تميزنا فيها مثل فن البالية والأوبرا، فلو لم تكن الفرق نفسها على مستوى عالي فهناك فنانين فرديين على مستوى عالي.

وأذكر هنا الفنان العظيم رمزي ياسر، فهو أول عازف بيانو دولي مصري، وهو زميلي، ولا يزال نشطًا في أوروبا وخارج أوروبا، وكذلك زميلي رضا شتا، الذي سافر خارج مصر عام 1970 لكي يبحث عن مستقبله في الخارج، وذلك بعد أن رأى أنه لا مستقبل له في مصر.

أما فيما يتعلق بالباليه فنحن نصدر راقصي باليه ذكور وليس إناث، وهذه حالة فردية في العالم كله، فأنا لا أعلم بلدًا آخر فيها هذا العدد من الذكور راقصي باليه، ولدينا معهد وهو من أعظم وأفخم المعاهد المخصصة لفن البالية، وفي أيامي أنا كان المعهد الجديد الذي درسنا فيه، والذي صممه أبو بكر خيرت والأكاديمية القديمة أو الحرم القديم، كان أفخم بمراحل من المدرسة العريقة للبولشوي التي كانت عبارة عن صالة مغلقة، لكنها أخرجت فنانين على مستوى عالمي عظيم، ثم انتقلوا إلى مدرسة جديدة، أما مدرستنا فعمرها قرنين من الزمن، وقد كرسنا مجهودًا كبيرًا جدًا وأموالاً كثيرة لتربية الفانين، ولكننا لا نستفيد منهم، فهذا لا يكفي، فلابد من دفعة قوية وإرادة قوية للتعريف بهم في الخارج.

مساعدة الفنانين الجدد

* نتوقف عند تكريمك بفيلمين هنا، وصحيفة نيويورك تايمز التي أفردت صفحة كاملة عنك وعن تاريخك وعن فنك وإبداعك، فكل هذه المعطيات هل تجعلك جسر بين الوطن الأم مصر وأميركا، بحيث يتم فتح مجالات لمواهب أو لفنانين جدد، من الممكن أن يأتوا إلى هنا ويعرضوا فنهم، أو يحصلوا على منح ماجستير أو دكتوراه؟، هل ممكن أن تلعبي هذا الدور؟

** لم أفكر أن ألعب دورًا كهذا، فللأسف الشديد تركت مصر بسبب ظروف قاسية واجهتها في حياتي الفنية، وسافرت لأنسى الحلم الذي يراودني طوال حياتي وهو عودتي إلى مصر بعد إنهاء الدراسات العليا، لأخدم الثقافة في بلدي بأي شكل من الأشكال في معهد البالية أو في الأوبرا، ولظروف معينة لم تتح لي الفرصة لكي أخدم بلدي كما كنت سابقًا.

وتغيرت حياتي وتزوجت عالم مصريات أميركي، وبدأت أهتم أكثر بتاريخنا العريق والتاريخ الفرعوني، ودخلت مجالاً جديدًا، وتعلمت الكثير. وفي نفس الوقت كنت منذ السبعينيات تقريبا أحاول أن أقدم برامج لتعريف الجمهور الأميركي بالفنون المصرية المعاصرة، مثل الباليه، وكنت أركز دائما على الرقص الحر.

وفي فترة من الفترات تزاملت مع ناقد الرقص المعروف “بولتر تاري”، وكنا نقدم محاضرات معًا، وقد زار بولتر مصر، وكان محب لمصر وفنونها، وتعرفت كذلك على الأستاذة نعمات حبشي، وهي مذيعة في الإذاعة المحلية بنيويورك في مجال الموسيقى الكلاسيكية،.

كما تعرفت على الأستاذة والدكتورة منى ميخائيل، التي كانت أستاذة في جامعة نيويورك، وكنا نقدم برامج في المكتبة العامة بنيويورك، وكان لديهم قاعة جميلة، وهذه العلاقة كانت علاقة طويلة ولا زالت قائمة، وقد قدمنا برامج مختلفة على مدى سنين عدة، وكنت دائما أبادر بهذا، فقد قدمنا فناني أوبرا وقدمنا الأوبرا باللغة العربية والذي أحياها المغني الباص أشرف سويلم ورؤوف زيدان وعازف البيانو العبقري محمد شمس والعازفين الأستاذ علي وعمرو سليم.

ويمكن القول إن المحاولات للتواصل مع مصر تواجه دائمًا بيروقراطية صعبة، فقد كنت أستيقظ الساعة الخامسة صباحا لكي أتصل بأي أحد في مكتبه، وقمت بمشروع لترتيب زيارة أشهر فرقة بالية بأميركا لمصر، وهي فرقة “نيويورك سيتي بالية”، وعملت على هذا المشروع لمدة 3 سنوات، وكان السفير الأميركي مقتنعًا بالمشروع، ورأى أن يتبع هذا المشروع زيارات رسمية مثل زيارة عمدة نيويورك لمصر، وكان مشروعًا كبيرًا، وتم إلغاؤه لخلاف على تقديم أو تأجيل العروض المتفق عليها لثلاثة أيام.

* أتمنى أن تتغير الظروف ويكون القادم أفضل، وأنا سعيد جدًا بوجودك معنا في هذا البرنامج، أشكرك وأتمنى أن تكوني معنا في حلقات قادمة تطلي من خلالها على جمهورك.

** وأنا أشكرك ،وأقول لك: صحيح أنني لست في مصر لكن مصر دائما موجودة داخلي، وأنا أقوم بما أقدر عليه، لكن الحلم الذي حلمت به يمكن أن نتركه للجيل القادم، والبركة في شباب مصر.

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

لمتابعة اللقاء عبر اليوتيوب :

تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى