رحــلــة الحــج بين الـمـاضـي والـحـاضــر
كتب ـ أحمد الغـر
الحج هو أحد الأركان الخمسة التي بُنِىَ عليها الدين الإسلامي، وهي عبادة لمن استطاع إليها سبيلا، وفيه تجتمع كل العبادات التي تغرس في النفس الإيمان والتقوى والإخلاص والجهاد، وهو من مكفرات الذنوب، فإذا حج المسلم يرجع كصفحة بيضاء ولا يكون مثقلا بأي ذنب، مثلما قال النبي الكريم: “من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه”.
لكن رحلة الحج والوصول إلى الأراضي المقدسة قديمًا لم تكن أمرًا هينًا، بل كانت رحلة محفوفة بالمخاطر، تتطلب مالًا وجهدًا يبلغ أضعاف ما يبذله الحجاج في زمننا هذا، في هذا التقرير يستعرض موقع (صوت العرب من أمريكا) صورًا مختلفة من رحلة الحج على مدى عقودٍ مضت، وكيف وثّقتها كتب التاريخ وما عاناه الحجاج الأوائل ليصلوا إلى بيت الله الحرام لتأدية الفريضة الخامسة، وصولًا إلى الوقت الراهن وسبل الراحة التي باتت متوفرة.
رحـلة الـعـمـر
يقول الله عز وجل: “وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا”، أي ماشين على أرجلهم، “وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ”، أي وهم راكبون، مستعنين بوسائل المواصلات المختلفة، كالخيل والإبل قديمًا، والسيارات والسفن والطائرات حديثًا، وتستجيب أمة الإسلام لنداء خالقها فى الحج مصداقا لقوله تعالى: “يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ”.
في موسم الحج؛ تهوى أفئدة المسلمين جميعا من كافة أصقاع الأرض إلى مكة المكرمة، لكون هذه الرحلة محفوفة بمشقة وتكلفة وخطورة فإن فرحة الوصول للأراضي الحجازية فرحة كبيرة، وكان توثيق هذه اللحظات الجميلة أمرًا مهمًا، كونها تمثل رحلة العمر، التي قد لا تسمح الظروف بتكرارها.
فوثّق المؤرخون والرحالة الأوائل ما عايشوه خلال موسم الحج، وقاموا بتدوين كل ما شاهدوه في المشاعر، وما مر بهم من أحداث خلال رحلة الحج وأداء المناسك، وتبعهم بعد ذك الكثيرون إلى يومنا هذا، حيث أصبح التصوير سهلًا باستخدام الهواتف الذكية والكاميرات، وأصبح لكل حاج ذكرياته وتوثيقه الخاص لرحلة الحج.
الرحّالة الأوائل
من أوائل وأشهر الرحالة الذي وثّقوا رحلة الحج في مخطوطاتهم، نجد “ابن بطوطة” و”الإدريسي” و”ابن جبير الأندلسي” و”أحمد بن فضلان” و”أحمد بن ماجد” و”المقدسي”، حيث كتبوا عن انطباعاتهم ومشاهداتهم في رحلتهم لأرض الحجاز، وقد صارت رحلاتهم تلك لاحقًا جزءًا مهمًا من التراث العربي والإنساني، حيث قدموا أيضا توصيفًا للحياة الاجتماعية في البلدان التي زاروها في الطريق خلال رحلات حجهم.
كما وصفوا كثيرًا من الأحداث التي مرت بهم عند مغادرتهم بلادهم ولدى عودتهم إليها، واصفين المظاهر التي كانت تقام عند الوداع والاستقبال، كما وصفوا القوافل التي ساروا في ركابها، وتركوا لنا سجلًا دقيقًا عن الأمور المتعلقة بطرق الحج أبرز مشاهداتهم خلال الرحلة، وأسهبوا فيها، حتى صارت تلك الرحلات مرجعًا مهمًا لكل باحث ومؤرخ في شؤون الحج.
مـشـقـة ومـخـاطـر
كان الاستعداد للحج قديمًا يبدأ بعد انتهاء عيد الفطر المبارك، حيث يجهز الراغبون في أداء الفريضة قافلة تشمل الإبل والمأكل والمشرب، وحتى أكفانهم، وكانت الرحلة تستغرق 4 أشهر تقريبًا، وكانت الطرقات وعرة ومحفوفة بالمخاطر وقطّاع الطرق، فكان السفر الى مكة لاداء الحج كـ “قطعة من العذاب” من كثرة الصعوبات التي كانت تكتسي الرحلة.
كان أهل الحجاج يودعونهم وهم غير واثقين تمامًا من عودتهم، فالمخاطر التي كانوا يتعرضون لها خاصة في أوقات ظهور الفتن في الدولة الاسلامية، واختلال الأمن بسبب الحروب وتعديات القبائل على الطرق، مما ساهم أحيانا في انتشار أعمال النهب والسلب، ولهذا كان الحجاج اليمنيون يفضلون الحج عن طريق البحر، على الرغم من مخاطره، وذلك حتى يتجنبوا مهاجمة العربان ومواجهة قطّاع الطرق البرية.
وبخلاف مخاطر الطريق والجوع والعطش، كان الحجاج يتعرضون في سفرهم لبعض الكوارث الطبيعية، مثل: العواصف والبرد القارس والامطار الغزيرة والسيول الجارفة، مثلما ذكر “ابن الجوزي” عن تعرض قافلة الحجاج الشامية سنة 692 هـ إلى رياح عظيمة وبرد ومطر، وهلك الناس، وحملت الريح أمتعتهم وثيابهم، وحصلت لهم مشقة عظيمة. وفي سنة 1196هـ، اجتاحت قافلة الحج المصرية أثناء سيرها في الطريق بين مكة والمدينة سيل أتى على نصف الحجاج المصريين.
مع تطور الزمن؛ أقيمت على طرق الحج منشآت كثيرة، مثل الاستراحات، والمرافق الاساسية من برك وآبار ومساجد وأسواق، كما وُضِعَت علي هذه الطرق الأعلام لإرشاد الحجاج إلى الطرق الواجب اتباعها، لذا فقد قلّل الحجاج ما يأخذونه معهم من مئونة وماء، حيث صاروا يتزودون بها أثناء مرورهم على مدن بلاد نجد.
أمـن الحجيج
حرص الحكام والولاة منذ عهد الخلفاء الراشدين، ومن تبعهم على تأمين طرق الحجاج بالحماية، وكانت قوافل الحجاج تتحرك على شكل مجموعات يحرسها عدد كبير من الجنود، وكان المحمل المصري والمحمل الشامي والعراقي يصحبها عدد من الجنود لحمايتها من قطّاع الطرق خلال الطريق إلى الحج.
وإلى وقتٍ غير بعيد، كانت شبه الجزيرة العربية قبل توحيدها على يد الملك عبد العزيز، عبارة عن إمارات متنافرة، تسودها الفوضى وعدم الاستقرار، ولسوء أوضاعهم المعيشية وصعوبة الحياة في الصحراء، كان يُعد الغزو ونهب من يمر بالقرب من مضاربهم أمرًا مألوفًا لدى بعضهم، وكان أعظم المتضررين من فقدان الأمن في شبه الجزيرة العربية هم حجاج بيت الله الحرام، وتذكر بعض كتب التاريخ عن تعرض بعض القوافل للسلب والقتل لكامل أفرادها.
لكن شتان بين حج اليوم وحج الأمس، فاليوم أكثر من 2.5 مليون حاج يفدون إلى مكة، برا وبحرا وجوا، بأمن وأمان وراحة واطمئنان، كما يساهم في حمايتهم داخل الأراضي المقدسة أكثر من 100 ألف رجل أمن من وزارة الداخلية السعودية، بالإضافة إلى القوات المساندة من وزارة الدفاع، والحرس الوطنى، والمتطوعين.
على خطى الأوائـل
ورغم ما كان يتعرض له الحجاج من مصاعب، فإنهم طالما واصلوا على السفر إلى الحج، ولم ينقطعوا عنه، وكان الحجاج من الكويت يزورون المدينة المنورة أولا، ومع اقتراب موسم الحج يذهبون إلى مكة، بينما الحجاج من باقي الأقطار العربية يزورون مكة أولا، وبعد ذلك يذهبون إلى المدينة المنورة.
لم تكن جوازات أو وثائق السفر معروفة قديماً، ومع مرور الوقت أصبحت هناك نقاط معينة متعارف عليها يحصل المسافر منها على “بروة”، وهى ورقة صغيرة تحمل إجازة أو إذن بالمرور، فكان الحجاج يحصلون على البروة من ممثل آل سعود في منطقة تسمى سلوى، كي تسهل لحاملها السفر بين المدن والقبائل في المملكة العربية السعودية، من دون أن يعترضه أي أحد.
ولم تسلم تجمعات الحجيج قديمًا من انتشار الأمراض أحيانا، ومن أشهر الأوبئة التي أصابت موسم الحج، كان سنة 1831، وجاء من الهند إلى الحجاز، ومات بسببه ثلاثة أرباع الحجاج، ثم انتشر وباء آخر سنة 1834 ثم سنة 1837 وسنة 1840، فيما انتشرت الكوليرا طوال 5 سنوات على التوالي من سنة 1846 حتى 1850، وفي 1895 حصل أيضاً وباء يشبه حمى التيفويد أو الزحار، فبدأ في قافلة انطلقت من المدينة المنورة إلى مكة، واستمر بدرجة ضعيفة عند عرفات ولم ينتشر في ما بعد.
لكن هذا كله اختفى لاحقًا، مع تطور الرقابة الصحية وذلك رغم أن الحجيج صارت أعداداهم بالملايين، وقد ساهم في ذلك أيضا اتخاذ المزيد من التدابير الاحترازية، كما حدث في عام 1866 حيث بدأ تطبيق قاعدة تفرض على الحجاج تقديم أضاحيهم في أمكنة معينة، وطمر جيف الحيوانات المذبوحة، باعتبارها مصدرًا لانتشار الأمراض والأوبئة.
أول صور فوتوغرافية
ظل توثيق رحلات الحج عن طريق التدوين إلى أن ظهرت التقنية الحديثة، التي نقلت لنا مشاعر الحج بالصورة، ويعود الفضل الأول في توثيق أجواء الحج عن طريق الصور الفوتوغرافية لرجلين تسلما الراية لتوثيق الحج منذ العام 1880م حتى نهاية العام 1901م، أولهما وهو “محمد صادق بيه المصري”، وهو أول إنسان يلتقط صوراً فوتوغرافية لمناسك الحج ومشاعره.
وقد تخرج صادق من مدرسة الهندسة الحربية، وتعلم التصوير في باريس ثم عمل بالجيش المصري وزار الحجاز 3 مرات خلال 20 عاماً بين 1860م و1880م، وألّف في ذلك مجموعة من الكتب لعل أهمها كتاب “مشعل المحمل”، وبعد رحيله جاء دور اللواء إبراهيم باشا، حيث تضمن كتابه المُسَمَّى بـ”مرآة الحرمين” الرحلات الحجازية والحج ومشاعره عبر مئات الصور الشمسية.
وقد ذهب إلى الحج للمرة الأولى عام 1991م، عندما تم تعيينه قومندان لحرس المحمل المصري، وفي عام 1903م عُيّنَ أميراً لركب الحج المصري، وقد ألّفَ وصوّرَ كل صورة في كتابه سنة 1901م، وطبعه سنة 1925م، ويعد كتابه من أهم الكتب التاريخية عن رحلة الحج قديمًا.
تقرير “ناشيونال جيوغرافيك”
في شهر يوليو من عام 1953م؛ نشرت مجلة “ناشيونال جيوغرافيك” الأمريكية، تقريرًا مصورًا، يُعدّ من أفضل التوثيقات القديمة للحج، وقد تم إلتقاط معظم صوره بعدسة طالب مسلم اسمه “عبدالغفور شيخ”، من أصل باكستاني، والذي كان يعمل مع والده بجنوب أفريقيا، لكن والده أرسله لدراسة إدارة الأعمال في جامعة هارفارد.
وخلال تواجده بالولايات المتحدة، ذهب عبدالغفور إلى مقر إدارة المجلة في واشنطن، وأخبرها بعزمه الذهاب إلى مكة لأداء فريضة الحج بعد عام، وأبلغهم برغبته في تصوير مشاعر الحج، لطبعها في عدد من أعداد المجلة وتعريف العالم الغربي بهذه الشعيرة المقدسة، فأعطته المجلة كاميرتين صغيرتين، وعاد عبدالغفور بصور رائعة.
بالصوت والصورة
لاحقا توالى توثيق الحج، وتجاوز الأمر الصور الصماء، ليصبح بالصوت والصورة، ولعل أول توثيق بالصوت والصورة هو الفيلم الذي أنتجه شركة مصر للتمثيل والسينما، تحت عنوان “الحج إلى بيت الله الحرام”، حيث تم نقل استوديو مصر بكامل معداته إلى بلاد الحجاز في سنة 1938م.
حيث تقدمت حينها شركة مصر للتمثيل والسينما إلى الملك عبدالعزيز آل سعود بطلبٍ للسماح للفنيين الذين أرسلهم استوديو مصر بالتقاط مناظر المناسك المقدسة والتقاط الأصوات على طبيعتها، ويعد هذا الفيلم من أروع الأفلام الوثائقية التي تحكي قصة الحج منذ أكثر من 8 عقود مضت.
إجراءات وتحسينات
على مدى عقود أضيفت إجراءات تحسينية لتسهيل أداء المناسك لمن يريدون أداء فريضة الحج، كتوزيع نسب الحجاج على الدول بنظام “ألف حاج لكل مليون نسمة”، وقد حددت وزارة الحج والعمرة السعودية النسب، بينما تحدد هيئات الحج في كل دولة حجاجها.
وقد تم تخصيص صالات للحجاج في بعض المطارات السعودية، مثل مطار الملك عبد العزيز في جدة، وصالة الحجاج لا تستخدم إلا في موسم الحج فقط، وهى مخصصة لاستقبال الأعداد الهائلة، وبإجراءات أمنية وطبية فائقة، وسرعة غير عادية في تنفيذ معاملات القادمين.
في حين تتولى منظومة ضخمة شؤون الأمن والحماية وتوفير سبل الراحة للحجيج، وفق خطة دقيقة ومعقدة يصعب تخيلها، أما عمليات تنظيف وتطييب الحرم المكي الذي تبلغ مساحته مليون متر مربع فإنها تتم على مدار الساعة وسط كثافة بشرية هائلة.
راحة ويُسر وأمان
في عصرنا الحديث؛ أصبحت وسائل السفر أكثر سهولة وأمانًا، مع توفير كافة الخدمات التي يحتاجها الحاج في رحلته، فصار الحج فريضة سهلة وممتعة، ورغم التطورات الكبرى التي شهدتها مشاعر الحج في السنوات الماضية، فما زالت تنتظر الحجاج تطورات أخرى أكثر لتسهيل أداء الفريضة دون المس بروحانيتها.
فقطار الحرمين سوف يربط جدة بالمدينة ومكة ومدينة الملك عبدالله الاقتصادية، مختصرا زمن سفر الحجاج بشكل قياسي، كما تسعي السعودية إلى رفع الطاقة الاستيعابية لزوار بيت الله الحرام إلى 30 مليون بحلول عام 2030، تماشياً مع أهداف رؤية 2030.
كما سيتم إدخال التقنية إلى مناسك الحج، عبر إعطاء الحجاج بطاقة ذكية تحمل بياناتهم وسوارًا ذكيًا يعد أشواط الطواف وينبههم أثناء سعيهم عند وصولهم لمنطقة الهرولة بين الصفا والمروة، وكذلك سماعة أذن تذكرهم بأدعية الطواف وتقوم بالترجمة الفورية.