تقارير

“إحياء روح الموصل”.. مبادرة أممية لإعادة النور للمدينة المدمرة

أحمـد الغــر

بهدف تعبئة المجتمع الدولي من أجل إعادة إعمار مدينة الموصل العراقية وإنعاشها من جديد، أعلنت المديرة العامة لليونسكو، “أودري أزولاي”، عن مبادرة “إحياء روح الموصل”، التي تهدف من خلالها لتقييم الوضع الراهن على أرض الواقع، وإعلان إنشاء الصندوق الائتماني لإعادة إحياء هذه المدينة المدمرة، التي كانت تمثل في يوم ما الوجه الحضاري المُشرق لبلاد الرافدين.

مدينة التعددية

تعد مدينة الموصل نموذجًا حيًا للتعددية في العراق، حيث كانت تمثل ملتقى ثقافات الشرق الأوسط لقرون طويلة، كما شكلت بوتقة انسجم فيها البشر على اختلاف مشاربهم وأفكارهم، فكانت هي الواجهة الحضارية الكبرى للعراق، بما ضمته من حضارات كبرى قامت على أرضها، وكانت أيضًا نقطة تقاطع استراتيجي ربطت الشرق بالغرب والشمال بالجنوب على مدار آلاف السنين.

فعلى أرضها، التقى اليهود بالآشوريين، والتقى الرومان بالفرس في نينوى على الضفة الغربية للنهر في العصور القديمة، ولاحقاً التقى المسيحيون بالمسلمين، والأتراك بالعرب في المدينة القديمة غرباً.

وبالرغم مما شهدته في فترات متابينة من نزاعات فكرية أو احتلال و اضطهاد، إلا أن الغالب على تاريخها كانت الفترات الطويلة من السلام والتناغم والازدهار المعرفي والحضاري.

ويوثّق تاريخ الموصل تربع التعدد والتعايش في قلب هويتها، كما كانت مقصدًا للطلبة والعلماء الذين كانوا يأتون لتعلم الدين والفلسفة والعلوم الاجتماعية والفن من مختلف الأقطار العربية.

مركز العراق الحضاري

وإلى جانب التعددية، فإن الموصل تعتبر واحدة من أقدم مدن العالم، وتتميّز بغنى تاريخها وتراثها وثقافتها، حيث تعد أحد المراكز المهمة للتراث العالمي، حيث تميزت بوجود العديد من الجوامع والأضرحة، التي يبلغ عددها 486 جامعًا وضريحًا، ويعود تاريخ معظمها إلى القرن الثاني عشر.

كما تمتلك الموصل 32 كنيسة و6 أديرة، تشهد على أهميتها كمركز مسيحي للعبادة والتعلم منذ القرن الرابع بعد الميلاد، وكانت الموصل عاصمة للدولة الزنكية، المشهورة بأعمال التعدين الرائعة والرسومات المصغرة والسجاد الحريري.

كما استمر سوق التوابل في باب السراي في استقبال التجار والبضائع من الهند والصين على مدار ألف عام. في حين شكلت مكتبات بيع الكتب في شارع النجفي مركزًا تجارة الأفكار التي تدفقت من الموصل منذ العصور الغابرة.

غزو داعشي

بين عامي 2014 و2017، وقعت الموصل، وهي ثاني أكبر مدينة في العراق، فريسة في قبضة تنظيم داعش الإرهابي، الذي مارس بحق معالمها الحضارية أقسى مظاهر النهب والتدمير والتشويه.

فلم يسلم من الخراب أي مبنى أو معلم أثري، وفي أيام معدودات، دمر التنظيم الإرهابي العديد من المواقع الأثرية بالمدينة، وهى التي استطاعت أن تنجو من السرقة والنهب والتخريب لقرون عدة.

والأسوأ في الأمر أن آلاف المنازل صارت أكوامًا من الركام، فهجر سكان الموصل مدينتهم، وامتلأت المخيمات الواقعة بالقرب من المدينة عن آخرها.

ورغم أن الموصل كانت تحتل المرتبة الثانية من حيث كثافة السكان بعد العاصمة بغداد، إلا أنه بعد سيطرة التنظيم، فرَّ منها أكثر من مليون شخص بحثًا عن الأمن والسلام في مناطق أخرى، أو في مخيمات تقع في بلدان مجاورة.

كما تسبب غزو داعش للمدينة في تغير وجها الديني، حيث فقدت خاصيتها التي كانت ترتكز على التعايش بين الأديان والحضارات، إذ هجرها أصحاب الديانات الأخرى خوفًا على حياتهم من القتل.

هذا بخلاف الكثير من الانتهاكات التي لا تحصى، مثل خطف واغتصاب النساء وتجنيد الأطفال والقتل حرقًا والاتجار بالأعضاء البشرية.

تشويه حضاري

يُذكر أن اليونسكو قد قامت بمسح رقمي بالأبعاد الثلاثية، شمل كل الأجزاء القديمة في الجهة الغربية من الموصل، بمبانيها التي يُعتبر بعضها أيقونات تراثية، لكن المسح أظهر أنه لم يبق منها سوى أطلال.

وقد تاجر التنظيم بكل ما أمكنه بيعه من الآثار في السوق السوداء، ودمر ما لم يتمكن من بيعه، إذ قام التنظيم بتدمير التماثيل العريقة في مدينة نيمرود الآشورية، والتي تعود إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، كما دمر أثار مدينة دور شرزكين في شمال الموصل، حيث كانت عاصمة المملكة الآشورية في عصر سرجون الثاني، في القرن الثامن قبل الميلاد.

هذا إلى جانب تدمير ضريح النبي يونس، والمنارة الحدباء، ومتحف الموصل، الذي سبق وأن تعرض في العام 2003م إبان الغزو الأمريكي للعراق، لعمليات سرقة ونهب واسعة، قبل أن يقوم تنظيم داعش في العام 2015م بتحطيم وتخريب محتويات المتحف.

إحياء روح الموصل

في العام الماضي؛ عُقِدَ في الكويت، المؤتمر الدولي لإعادة إعمار وتنمية العراق، وذلك للتركيز على الأهمية المركزية للبعد الإنساني في عمليتي التعافي والبناء على نحو تنمية مستدامة.

حينها أطلقت المديرة العامة لليونسكو مبادرة رائدة بعنوان إحياء روح الموصل، وذلك للتركيز على البعد الإنساني لعملية إعادة إعمار المدينة.

وتعد مبادرة “إحياء روح الموصل” واحدة من أولويات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونسكو”، خاصة خلال السنوات القليلة القادمة، حيث تمثل المبادرة أكبر حملة إعادة إعمار تقوم بها المنظمة في الآونة الأخيرة، وقد حشدت اليونسكو كامل قواها في سبيل إتمام هذه المبادرة الرائدة.

وتتماشى المبادرة مع خطة إعادة الإعمار والتنمية في العراق بشكل عام، والتي تقوم بها الحكومة العراقية، وبرنامج التعافي وبناء القدرة على الصمود في العراق، الذي استهل بمبادرة من الأمين العام للأمم المتحدة.

كما تشمل المبادرة مجموعة من المشاريع الرئيسية التي ستساهم في ترميم مواقع التراث في الموصل، وإحياء حياتها الثقافية ومؤسساتها التعليمية من جديد.

حشد دولي

وفي سياق المبادرة، ستتولى اليونسكو مهام تنسيق الجهود الدولية في مجالين رئيسيين، هما: إصلاح وإعادة تأهيل التراث الثقافي، وتجديد حيوية المؤسسات التعليمية والثقافية، وذلك بدعم كامل من الحكومة العراقية والأمين العام للأمم المتحدة.

وقد شملت المبادرة في إطار اجتماعاتها حشدًا للعراقيين الذين يجسدون روح الموصل، من سياسيين وأكاديميين وشخصيات بارزة في الحياة اليومية للمدينة، وكُتّاب ودبلوماسيين وشهود عيان على ما حل بالمدينة، لإيصال صوتهم من خلال سلسلة من أربع حلقات نقاش بحضور شخصيات مرموقة في مجالات التاريخ السياسي، والعلوم الاجتماعية، وتاريخ الفن، والعمارة، والأدب.

كما انضم إليهم شاب من الموصل شاهد بأم عينيه الوضع الذي كانت عليه الحياة في المدينة أثناء احتلال تنظيم داعش لها، ويعمل اليوم على إحياء المدينة لتستعيد مكانتها من جديد، كرمز لهوية العراقية التعددية والمتسامحة.

المشروع الأهم لليونسكو

ذكر مصدر مسئول في اليونسكو أن هذا المشروع الطموح سيمتد بين خمس وعشر سنوات، وهو المشروع الأهم الذي تقوم به المنظمة في الوقت الراهن، ويجب أن ينتقل إلى مرحلة التطبيق، وهو أمر معقد في مدينة ما زالت مليئة بالألغام والدمار.

وقد جمعت اليونسكو أكثر من 100 مليون دولار، خصوصًا من الإمارات العربية المتحدة، التي تأتي على رأس المانحين، إلى جانب الاتحاد الأوروبي واليابان.

جديرٌ بالذكر أن دولة الإمارات ستتولى وحدها إعادة ترميم منارة الحدباء التاريخية، وكذلك إعمار جامع النوري الذي يعد نصبًا تذكاريًا يقف شاهدًا على الدور الذي اضطلعت به الموصل بوصفها ملتقى للثقافات عبر التاريخ.

وهو المسجد الذي اختاره زعيم تنظيم داعش “أبو بكر البغدادي” لإعلان خلافته المزعومة في 4 يوليو 2014م، كما يعتبر أيضًا المكان الذي ظهر فيه البغدادي للمرة الأولى والأخيرة.

كما تنوي اليونسكو وضع التعليم والثقافة في قلب المبادرة، وذلك بالتشاور الكامل مع الحكومة العراقية، إلى جانب إعادة تأهيل وترميم التراث التاريخي، الذي يمثل العنصر الأساسي في المبادرة.

وقد صرحت مديرة اليونيسكو “أودري أزولاي” في بيان لها إنه “عبر إعادة تأهيل الإرث الثقافي المشترك وإنعاش الحياة الثقافية والتربوية، يمكن لأهل الموصل أن يصبحوا مجددًا صانعي مجد بلدهم”.

اليونسكو في بغداد

أعلنت اليونسكو قبل أيام عن نقل مقرها الإقليمي من العاصمة الأردنية “عمان” إلى بغداد بعد استتباب الأمن فيها، وقالت الرئاسة العراقية في بيانٍ لها إن اليونسكو قد استجابت لدعوة الرئيس “برهم صالح” بنقل مقرها الإقليمي إلى بغداد، وأعلنت هذه الموافقة إثر اتصال هاتفي بين صالح ومديرة المنظمة “أوردي أزولاي”.

وقد عبر الرئيس صالح عن أهمية هذه الخطوة في تعزيز الشراكة بين العراق والمنظمة الأممية، وأنها ستكون دافع للمزيد من الانجازات التي تحققت من خلال الدعم التربوي والثقافي والعلمي والتراثي في البلاد.

تعاون قديم

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ هناك تعاون طويل الأمد بين اليونسكو والعراق، حيث أنجزت اليونسكو بنجاح عددًا من المشاريع الكبيرة بشأن التراث الثقافي، ومنها على سبيل المثال: إصلاح ضريح الإمامين العسكريين في سامراء، وإنعاش قلعة أربيل.

كما بدأت اليونسكو في عام 2017، بالتعاون مع وزارة الثقافة العراقية، خطة التصدي لحماية التراث الثقافي في المناطق المحررة في العراق من أيدي تنظيم داعش الإرهابي.

كما دعا الرئيس صالح المنظمة إلى إعانة العراق على استعادة آثاره المنهوبة، مثمنًا دور المنظمة في إدراج الأهوار ضمن لائحة التراث العالمي. فيما دعت مديرة اليونسكو إلى حث الدول للمشاركة في الاكتشافات الأثرية خلال المرحلة المقبلة.

تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى