تقارير

مجزرة “إل باسو” تدق ناقوس الخطر.. الإرهاب الأبيض أشد ضراوة وأكثر فتكًا!

أحمد الغـر

قد يكون الدافع الرئيسي للمجزرة التي ارتكبها الأمريكي الأبيض “باتريك كروسيوس” في مدينة “إل باسو” بولاية تكساس، هو عداؤه للمهاجرين والمنحدرين من دول ناطقة بالإسبانية بالقارة الأمريكية الجنوبية، والذين يشكلون 81% من سكان “إل باسو”.

لكن أحدًا لم يتحدث عن المجزرة بوصفها جريمة إرهابية خطيرة، بقدر ما جرى الحديث عن الكراهية والدوافع الشعبوية التي ينتهجها القوميون المتعصبون لبلدهم، وهو ما قد يخفف من وقع الجريمة رغم فداحتها، ويدخلها بسرعة إلى غياهب النسيان.

وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن التمايز والانتقائية في توصيف مثل هذه الجرائم؛ فهذه جريمة إرهابية كون مرتكبها مسلم أو عربي أو مهاجر أو أسود، وتلك جريمة جنائية ـ أو في أسوأ الأحوال جريمة كراهية ـ كون مرتكبها مسيحي أو أبيض من سكان البلد!.

لماذا لا نسمع عن فوبيا متعلقة بالإرهاب الأبيض مثلما نسمع ليل نهار عن الإسلاموفوبيا؟، ولماذا لا تحظى جرائم الإرهاب الأبيض بنفس التهويل الإعلامي، والتحليلات الصحفية المطولة، مثلما يحدث مع غيرها من الجرائم الإرهابية؟

سفاح “إل باسو”

قبل ساعات قليلة من قتله 22 فردًا، وجرح 26 آخرين، خارج وداخل متجر “وول مارت”، تحدث الشاب الأمريكي الأبيض “باتريك كروسيوس” في منشور له على الانترنت، عن ما أسماه “غزو الإسبان لتكساس”.

وفي عبارة ثانية عبّر عن مدحه وإعجابه بمن هاجم المسجدين في مدينة “كرايست تشريش” في نيوزيلندا، في 15 مارس الماضي، وقتل 51 مصليًا بالرصاص، وجرح العشرات.

“كروسيوس”، البالغ من العمر 21 سنة، يقطن في مدينة Allen البعيدة 1000 كيلومتر عن “إل باسو”، وتقريبًا 40 كيلومتر عن مدينة “دالاس” في تكساس.

لكنه قطع هذه المسافة حاملًا بندقيته إلى متجر “وول مارت”، حيث وجد عند مدخله أشخاصًا يجمعون تبرعات، فأمطرهم بطلقات متسارعة.

بعدها تابع طريقه إلى داخل المتجر، وكان هناك 100 عامل وموظف في ذلك الوقت، إضافة لأكثر من 3000 متسوق، غالبيتهم كانوا يشترون مستلزمات مدرسية وتوابعها، فأطلق النار عشوائيًا على من كانوا بالداخل.

وفي ظل لحظات من الرعب والخوف المميت، أقبلت الشرطة وسيطرت على الوضع، وتم اعتقال “كروسيوس” من دون إطلاق أي رصاصة عليه، لأنه سارع بنفسه إلى الاستسلام.

إرهاب محلي

يعد هذا الحادث هو ثاني إطلاق نار قاتل يحدث في متجر “وول مارت” هذا الأسبوع، بعد أن قتل موظف سابق في الشركة اثنين من زملائه السابقين في فرع المسيسيبي يوم الثلاثاء.

ويُعتقد أن الحادث هو ثامن أكثر الحوادث دموية في تاريخ الولايات المتحدة الحديث، وجاء قبل ساعات قليلة من إطلاق نار جماعي آخر في دايتون بولاية أوهايو، وبعد 6 أيام من مقتل ثلاثة أشخاص في مهرجان للطعام في كاليفورنيا على يد مسلح مراهق.

وجدد هجوم “إل باسو” الدعوة إلى الحد من حيازة الأسلحة في الولايات المتحدة، لكن المدعي العام في ولاية تكساس، كين باكستون، قال إنه ربما لم يكن من الممكن منع الهجوم. وأضاف أنه إذا شن مسلح “مجنون” مثل هذا الهجوم، فلن تكون هناك طريقة تتيح لضباط تطبيق القانون منع حدوثه، وقال لشبكة “سي بي إس نيوز” الإخبارية : “أفضل طريقة هي أن تكون مستعدًا للدفاع عن نفسك”.

فيما قال جون باش، المدعي العام الأمريكي في المقاطعة الغربية بتكساس، إن الحادث يجرى التحقيق فيه باعتباره قضية “إرهاب محلي”.

وأضاف أن منفذ الحادث قد يواجه اتهامات تتعلق بجرائم كراهية فيدرالية، واتهامات تتعلق بالأسلحة النارية الفيدرالية التي تصل عقوبتها إلى حد الإعدام.

وثيقة كراهية

ووقع هجوم “إل باسو” في مدينة ينحدر معظم سكانها، البالغ عددهم 680 ألف نسمة، من أصول إسبانية. وكانت وثيقة قد نُشرت على الإنترنت، يُعتقد أن “كريسيوس” هو من كتبها، تبنت وجهات نظر قومية وعنصرية لدى ذوي البشرة البيضاء. ووصفت الوثيقة الهجوم بأنه رد على “غزو الإسبان لتكساس”.

الوثيقة تقع في 4 صفحات، وتم نشرها على موقع “8 شان”، وهو منصة رسائل على الإنترنت يستخدمها اليمين المتطرف بشكل متكرر، وهي تصف “الاستبدال الثقافي والعرقي الناتج عن الغزو”، في إشارة إلى ذوي الأصول الإسبانية في الولايات المتحدة.

وعبّر “كريسيوس” عن قلقه من تزايد نفوذ ذوي الأصول الإسبانية بالولايات المتحدة، حتى أنه كتب على الانترنت قائلاً: “إنهم سينتزعون السلطة من الحكومة المحلية، ومن حكومة ولاية تكساس الحبيبة، لتغيير سياستها، بحيث تناسب احتياجاتهم”.

وتشير الوثيقة أيضًا إلى دعم “كريسيوس” للمسلح الذي قتل 51 شخصًا في حادثة كرايست تشيرتش في نيوزيلندا، في مارس الماضي. وهذه المنشورات مازالت قيد التدقيق من “إف.بي.آي” للتأكد من صحتها.

مذبحة “تشابيل هيل”

هذه الجريمة العنصرية تعيد إلى الأذهان عدة حوادث مشابهة. ففي فبراير من عام 2015م؛ قام “كريغ هيكس” بقتل طالب الطب السوري “ضياء بركات” وزوجته الأردنية “يسر أبو صالحة” وشقيقتها “رزان” في مدينة تشابيل هيل الجامعية في نورث كارولاينا.

حينها تم التعامل مع المذبحة على أنها جريمة عادية، يمكن وقوعها في أي مكان وزمان، ولم تجد هذه القضية، على بشاعتها، التفاعل المناسب معها، ربما بسبب تبسيط الإعلام لها، أو لعدم اعتبارها جريمة ذات أبعاد عنصرية تخص القاتل بعينه، وليست ذات أبعاد عامة معادية للإسلام، راسخة لدي كثيرين غيره.

وبعد أكثر من 4 سنوات، وقبل أسابيع قليلة من الآن، قضت المحكمة على القاتل بالسجن المؤبد. وقدم قائد شرطة تشابيل هيل اعتذاره عن المقاربة الخاطئة التي اعتمدتها أجهزته للحادث، وتصويره على أنه رد فعل على خصومة حول مكان ركن سيارة.

لكن ما من أحد، في إطار هذه القضية، وحتى اللحظة الراهنة، تحدث عن الإرهاب الأبيض أو أدانه، أو أدان معاداة المسلمين والمهاجرين.

الكيل بمكيالين

الكيل بمكيالين حيال مذبحة  “تشابيل هيل” دفع رواد مواقع التواصل الاجتماعي حينها إلى التنديد بالصمت الإعلامي حول الجريمة، وكان هاشتاج #ChapelHillShooting هو المنصة التي واكبت المأساة، ونبهت العالم إليها.

كما ظهر هاشتاج آخر بعنوان #MuslimLivesMatter والذي يعني “حياة المسلمين مهمة”، وركز على انتقاد تجاهل وسائل الإعلام الأمريكية للحادث، وانتقاد الصمت الذي طال دون تناول الموضوع.

العداء الغربي المتعصب ضد المسلمين ليس جديدًا، فلا يمكن نسيان مقتل الصيدلانية المصرية “مروة الشربيني” في مدينة دريسدن الألمانية في العام 2009م، عندما قام “أليكس فينز” بقتلها – وكانت وقتها حاملًا في جنين عمره 3 أشهر- وقام المهاجم بطعنها 18 طعنة في 3 دقائق، بعدما وصفها بالإرهابية بسبب ارتدائها الحجاب.

حينها أيضًا تأخرت ردة الفعل الدولية، حتى أن الحكومة الألمانية، المعنية بالحادثة أكثر من غيرها، انتظرت أكثر من أسبوع قبل أن تدين الجريمة على استحياء.

مجزرة المسجدين

ليس ببعيدٍ عنا المذبحة التي وقعت في مسجدي مدينة “كرايست تشيرش” في نيوزيلندا، عندما أقدم المتطرف الأسترالي “برينتون تارانت” بقتل عشرات المصلين المسلمين بدمٍ بارد، وقام بثَّ المجزرة مباشرة على الإنترنت.

وظهرت صورة البندقية التي حملها “تارانت” وقد غطتها حروف بيضاء اللون لأسماء أشخاص آخرين ارتكبوا أعمال قتل على أساس عرقي وديني، وإشارات سلافية وأرمينية وجورجية إلى شخصيات قاتلة وأحداث تاريخية، وعبارة تسخر من كتيب أعدته الأمم المتحدة لكيفية التعامل مع المهاجرين.

كما أشار “تارانت” في بيان نشره على الإنترنت، يتكون من 74 صفحة، إلى أن ما دفعه لتنفيذ الهجوم هي “الإبادة الجماعية للبيض”، وهي عبارة يستخدمها العنصريون البيض لوصف آثار الهجرة، والزيادة في أعداد سكان الأقليات، كما أشاد “تارانت” بالرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، ووصفه بأنه “رمز لإحياء الهوية البيضاء”.

تمييز ممنهج!

ومن المفارقات أيضًأ؛ أننا وجدنا ضجة عالمية كبرى حيال الهجوم على مقر مجلة (شارلي إيبدو) في باريس قبل أعوام، رغم كونها مجلة مثيرة للجدل، لا تحترم أدني المعايير الأخلاقية في نقدها ورسومها التي تسخر من كل شيء حتى الأديان والأنبياء.

لكن هذه المرة لم يتم توصيف الهجوم بالجريمة العادية، أو كرد فعل لما تقوم به المجلة من استفزازات، أو أنها جريمة قام بها أشخاص لا يؤمنون بحرية الرأي ولديهم توجه يختلف عن المجلة فحسب، بل صدرت إدانات واسعة من معظم الدول والمؤسسات الدولية، وانتشرت حملات للمواساة والحزن والتعاطف مع الضحايا، ضد هذا الإرهاب الأسود والمقيت.

وخرجت مسيرة حاشدة جابت شوارع العاصمة الفرنسية، شارك فيها الرئيس الفرنسي السابق “فرانسوا هولاند”، وغيره من الرؤساء والشخصيات الكبرى حول العالم، بعضهم مارس الإرهاب أو دعّمه، حتى أن بعض وسائله الإعلام أطلقت على باريس لقب “عاصمة العالم ضد الإرهاب”.

في حادثة “شارلي إيبدو” كان الإعلام حاضرًا بقوة، ومتفاعلاً طوال الوقت، وصارت الواقعة هي حديث الساعة، ربما لأن المدانين فيها ينتمون إلى الإسلام، أو لأن الضحايا من الغرب.

ففي مثل هذه الحالات يوظف الإعلام الحدث ويستخدمه ضد الإسلام كديانة، وضد المسلمين كأفراد، دون أدنى موضوعية في التحليل، ودون مراعاة الحقيقة الراسخة بأن مثل هذه الحوادث مجرد حوادث فردية لا تمثل الدين الإسلامي المتسامح أو عموم المسلمين.

الإرهاب ليس الإسلام

ثمة شحن ثقافي وسياسي واجتماعي يتم على قدم وساق في بعض البلاد الغربية طوال الوقت، وهو ما أدى إلى الربط بين كلمة “إسلام” وكلمة “إرهاب”، بحيث أنهما وصلا إلى مرحلة أن يكونا مترادفين.

ومن الغريب قدوم الجيوش الغربية إلى بعض البلدان الإسلامية بحجة زرع الديمقراطية ونشر التسامح، في نفس الوقت الذي تعج فيه بلادهم بالعدوانية والعنصرية والإرهاب الأبيض. وهذا الاستخفاف الخطير هو الذي يقود إلى إغماض الأعين عن العنصرية الغربية الممنهجة.

إرهاب يميني

في ظل تجاهل التطرف اليميني في الغرب والاستهانة به لوقت طويل، وإعطاء مساحة من الإعلام لهذه الأصوات الشاذة، والسماح لحملات التشهير والتخويف من المسلمين بالانتشار، فإننا نسمع ونرى كل فترة قصيرة جريمة عنصرية أو مذبحة، وهو إرهاب محلي متطرف، يحتاج إلى المواجهة وإعلان الحرب عليه أيضًا.

ففي 19 إبريل من العام 1995م، قام اليميني المتطرف “تيموثي ماكفيفي” بهجوم إرهابي بسيارة مفخخة في أوكلاهوما الأمريكية، سقط نتيجته 168 قتيلًاً وأُصيب 680، إضافة إلى حدوث أضرار في 324 مبنى، وتدمير أو حرق 86 سيارة.

وفي 22 يوليو2011م، قام يميني متطرف آخر يُدعى “أندرس بيرينغ بريفيك” بقتل 77 شخصًا وجرح 151 آخرين في العاصمة النرويجية أوسلو.

والمثير في الأمر أن عقب الهجومين سارعت وسائل الإعلام إلى ربط الاعتداءات بالإسلام، وتطوع عدد ممن يصفون أنفسهم بالخبراء بالإدعاء أن هجوم أوسلو يحمل بصمات ما أسموه بالإرهاب الشرق أوسطي والإسلامي.

وعندما تم كشف هوية منفذي الهجومين، وأن كلاً منهما مسيحي متطرف، لم يتناول الإعلام الغربي الأمر بذات الطريقة التي قام بها عقب الهجوم، عندما ادعى ارتباطهما بالإسلام.

بل جرت التعمية على ديانتهما، كما تم اعتبار الحادثة فعلًا فرديًا يرتبط بتفسيرات أخرى تتعلق بمعتقدات مقاومة الهجرة وكراهية اللاجئين والحفاظ على القومية.

قطرة في بحر الكراهية

هذه المذابح، على كثرتها وبشاعتها، لا تشكل سوى قطرات في بحر الكراهية الواسع الذي يكنّه اليمين المتطرف ومن يدعمونه ولو معنويًا في البلدان الغربية، تجاه المسلمين والسود والمهاجرين والأقليات عمومًا، وهى تفضح حجم العمى العنصري، والجهل والتعصب، وتبرير القتل.

وهذا الأمر ليس وليد اللحظة، بل إن ظهوره بدأ منذ بدايات اكتشاف العالم الجديد، واستعباد الأفارقة ونقلهم إلى الغرب، مرورًا بالاستعمار الأبيض، وانتشار العبودية والفاشية والنازية والفصل العنصري.

والأسوأ أن هذه المذابح تكون محفزة للمزيد من المذابح الأخرى وجرائم كراهية أشد ضراوة. كما تكرس لأيديولوجيا تعادى الآخر المختلف دينيًا وثقافيًا وعرقيًا، وتُحمّله مسئولية المشكلات المجتمعية التي تعانيها الدول الغربية.

ومن المؤسف أن اليمين المتطرف في الدول الغربية في تصاعد مستمر، ويتغذى من فشل الأحزاب الرئيسية اقتصاديًا وسياسيًا، ومن تصاعد الشعبوية ومعاداة الأجانب والمهاجرين.

طي النسيان

من المؤسف أكثر أن يتم فرض مسمى الإرهاب، وقصر تسميته على هويات إثنية محددة، أو عرقيات بذاتها، وأن تتحمل وزره طوائف دينية بعينها، فيما تُستثني عوالم الغرب الأبيض بسكانه من هذه التهمة.

قد ينسى العالم سريعًا مذبحة “إل باسو”، مثلما نسى مجزرة مسجدي مدينة “كرايست تشيرش”، ونَسِىَ ما حدث في “تشابل هيل” و”دريسدن” وغيرها.

لكن المأساة تكمن في أن ضحايا هذا الإرهاب البغيض لن تكون نهاية المطاف، ستتكرر الجريمة في زمان آخر ومكان آخر، وأغلب الظن أن التوصيف الخاطئ لما حدث سيستمر، والتغطية الإعلامية السطحية والتمييزية ستتكرر!

تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى