تقاريركلنا عباد الله

في ذكرى الهجرة النبوية.. كيف أسس الإسلام لقيم التعايش السلمي بين البشر؟

"وثيقة المدينة" أقدم دستور لتحقيق الديمقراطية والمواطنة والمساواة

علي البلهاسي

غدًا السبت يبدأ العام الهجري الجديد في الدول العربية والإسلامية، وذلك بعد أن تم استطلاع هلال شهر المحرم الذي يعد ميلاده إيذاننا ببداية عام 1441 الهجري.

ويحتفل المسلمون في جميع أنحاء بهذه المناسبة الدينية التي توافق ذكرى هجرة رسول الله محمد- صلى الله عليه وسلم- من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، والتي تم اتخاذها بداية للتقويم الهجري حسابيًا.

وكانت الهجرة النبوية خطًا فاصلاً في تاريخ الإسلام، فقد هاجر النبي محمد والصحابة الكرام، بعد اضطهاد أهل مكة لهم، والتنكيل بهم، الذي دام لسنين، وبعد صعوبات وعوائق لا يتحملها بشر.

التقرير التالي يعرض لكم معلومات هامة عن قصة التقويم الهجري، والدروس المستفادة من الهجرة النبوية، وكيف أسست وثيقة المدينة التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم لقيم التعايش بين البشر، واحترام العقائد والاختلاف في المجتمع.

التقويم الهجري

بدايةً يُعدّ التقويم الهجري أحد التقاويم التي اتخذتها الشعوب، والتي تختلف في خصائصها الدقيقة عن بعضها البعض، إلا أنه يمكن إجمالها في نوعين رئيسيين أحدهما شمسي أساسه دوران الأرض حول الشمس، والآخر قمري وأساسه دوران القمر حول الأرض، وثالث مختلط يجمع بين التقويميين الشمسي والقمري.

ويعتمد التقويم الهجري على رؤية الأهلة، ومتابعة ورصد حركة النجوم الثابتة المستقرة في حركتها مثل الشمس والكواكب والأقمار، ومن خلال هذه المتابعة ورصد حركة هذه الأجرام وحساباتها.

وقد تم تقسيم السنة الهجرية إلى 12 شهرًا يحتوي كل منها على 29 أو 30 يومًا وفقا لدورة القمر الشهرية حول الأرض، وبحسب التقويم القمري للمسلمين فإن السنة الهجرية الأولى وافقت بالحساب الميلادي الخميس 15 يوليو عام 622 يوليانية.

التقويم قبل الإسلام

وفقًا لتقرير نشرته “وكالة أنباء الشرق الأوسط” فقد كان العرب قبل الإسلام يستخدمون تقاويم مختلفة ترتبط بأحداث مهمة وجمعيها مبني على حركة القمر الشهرية، فقد كانوا يؤرخون الحوادث بالنسبة للعام الذي بنيت فيه الكعبة عام 1855 قبل الميلاد، ولما أصبح هذا التاريخ موغلا في القدم أخذوا يؤرخون بحادث انهيار سد مأرب باليمن (عام 120 قبل الميلاد)، ثم بدءوا يؤرخون الحوادث بعام الفيل 571 ميلادية، وقبل ظهور الإسلام بفترة قصيرة أخذوا يؤرخون بعام تجديد الكعبة 605 ميلادية.

التقويم بعد الهجرة

وبعد هجرة الرسول من مكة إلى المدينة بدأ المسلمون الأوائل يؤرخون حوادثهم بشكل آخر فقد سموا السنة الأولى للهجرة بـ “سنة الإذن بالهجرة”، والثانية بـ “سنة الأمر بالقتال”، والثالثة “التمحيص”، والرابعة “الترفئة”، والخامسة “الزلزال”، والسادسة “الاستئناس”، والسابعة “الاستقلاب”، والثامنة “الاستواء”، والتاسعة “البراءة”، والعاشرة “الوداع”، أي سنة حجة الوداع الأخيرة.

واشتهر بني كنانة في مسألة النسئ أو كبس الشهور لكي تتوافق السنة القمرية مع السنة الشمسية ليكفلوا التوافق بين الشهور والفصول لتكون مواسمهم في الفصول المناسبة لإقامتها.

أما أسماء الأشهر العربية المتداولة بالتسمية الحالية، فهي نفس الأسماء التي كان يستعملها العرب في العصر الجاهلي، وهي (محرم- صفر- ربيع أول- ربيع ثاني- جمادي الأولى- جماد الأخر- رجب- شعبان- رمضان- شوال- ذي القعدة ذى الحجة).

وقد سمى العرب الشهور الهجرية بالتسمية الحالية في عهد “كلاب بن مرة” الجد الخامس لنبي الإسلام أي حوالي عام 412 ميلادية.

وبنزول قوله تعالى إن “عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض” تم تحريم موضوع الكبس أو النسئ في السنة القمرية، واعتبرت السنة الهجرية منذ ذلك الوقت 12 شهرًا، وتم اتخاذ شهر محرم الحرام ليكون بداية السنة القمرية.

وللتقويم الهجري عدة إيجابيات عن التقاويم الأخرى، ومنها أنه إذا أخطأ في أي شهر فإنه يصحح نفسه في الشهر التالي، وعدم ثبوت مواعيد الأعياد والمواسم الدينية والعبادات المهمة نتيجة اختلاف طول الشهر الهجري.

حدث فريد ودروس مستفادة

وبمناسبة العام الهجري الجديد أصدرت دار الإفتاء المصرية بيانًا أكدت فيه أن الهجرة النبوية تمثل حدثًا فريدًا في تاريخ البشرية يتجاوز حدود الزمان والمكان، وتبرز المعاني الإيمانية والإنسانية العظيمة، ومظاهر الرحمة الإلهية، كما أنها تظهر أهمية التخطيط والأخذ بالأسباب في تحقيق الأهداف.

وأضافت أن أحداث الهجرة النبوية المشرفة أكدت أهمية حسن الظن بالله، والتوكل عليه، وتجريد الإخلاص له سبحانه، بالإضافة إلى أهمية هجرة المعاصي، ومخالفة الهوى، وترك العادات المذمومة، والعمل على تقوية إرادة الإنسان وعزيمته.

وأوضحت دار الإفتاء المصرية أن الهجرة النبوية أظهرت منزلة حب الوطن وألم مفارقته، وأنتجت قيم العمل والمثابرة والتعاون والتآخي والصبر لبناء المجتمع، والتعايش والمحبة مع الآخر واحترام العقائد.

واختتمت البيان برسالة وجهتها إلى جموع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها قالت فيها: “فلنجعل من ذكرى هجرة النبي ﷺ نموذجًا إيمانيًّا للارتقاء والقرب من الله وتطهير النفس وبناء الأوطان”.

العفو والتسامح

من دروس الهجرة النبوية أيضًا العفو والتسامح، والعيش والتعايش السلمي بين الجميع على مستوى الحي والمدينة والدولة والمجتمع بأسره، والسعي إلى العمل من جديد والبناء، وقبول الآخر، والمصداقية في ذلك وإبداء حسن النوايا لتغيير الحال وتبديله، وإيجاد الحلول والأفكار القادرة على لم وجمع الكلمة، والعيش بحب واحترام وكرامة، والدعوة إلى التعايش بين أبناء المجتمع الواحد، وحقن دمائهم وصون أعراضهم، وممتلكاتهم وحماية مقدساتهم وهويتهم.

ولا يتأتى ذلك التعايش والتسامح ونشر الحب والوئام إلا تحت سقف يجمع الكل ويجعل الناس سواسية كأسنان المشط، لا فرق بين عربي وعجمي وأبيض وأسود، بعيداً عن العصبية والقبلية والحسب والنسب والمناصب، الكل سواسية أمام الله، بعيداً عن المجاملة والمحسوبية، والمصالح الضيقة وتصفية الحسابات.

فبالتسامح والعفو تسود المحبة والود بين الناس، ويسود الاحترام المتبادل، وينتشر الأمن والأمان بين الناس، ويتم تبادل المنافع والخبرات بيسر وسهولة بين مختلف التيارات، بما يعم الخير على الجميع

تأسيس مجتمع جديد

بعد الهجرة إلى المدينة المنورة بدأ النبي محمد صلى الله عليه وسلم في تأسيس مجتمع جديد وحياة جديدة، كانت شديدة الاختلاف عما عهده العرب من قبل. فقد سعى صلى الله عليه وسلم، لتثبيت السلم الأهلي والمجتمعي في مجتمع يعج بالاختلاف بين الطوائف الموجودة به وكذلك الديانات المختلفة لأهله.

وكان هذا هو الهدف الأول والأهم الذي سعى النبي محمد لتحقيقه، فقام بالإيخاء بين أبناء الطائفة الواحدة، وهم المسلمون (المهاجرون والأنصار)، ثم بينهم وبين الطوائف الأخرى والتي من بينها اليهود على تعدد قبائلهم وعشائرهم.

وكانت «وثيقة المدينة» حلاً عبقريًا لجمع كل من يعيشون في المدينة المنورة، من مسلمين ومسيحيين ويهود، فقد شملت بنودًا لم يسبق أن رآها العرب من قبل، والذين كانت حياتهم تقوم على فوضوية كاملة، فكانوا يعانون من السلب والنهب والتهجم على بعضهم البعض، داخل المدن وخارجها.

وأكد الدكتور شوقي علام، مفتى الديار المصرية، في تقرير له عبر موقع الدار، أن أخلاق النبي وسيرته الشريفة العطرة قبل الهجرة شملت ممارسات التسامح، لكنها تحولت في المدينة المنورة إلى منظومة عامة، ودستور مدني، ومبادئ راسخة، وعلاقات أخلاقية، وقواعد حاكمة، على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول، بدءاً من أول يوم دخل فيه النبي إلى المدينة مفتتحاً ذلك بالسلام والتعاون والمواطنة.

بنود “وثيقة المدينة”

جاءت بنود وثيقة المدينة لتؤسس لحياة جديدة، ولمستوى جديد من التشريع، حيث سمحت حالة الوفاق والائتلاف التي أسستها الوثيقة، بنزول أغلب أحكام المعاملات في الإسلام، وتشريعات التعامل مع غير المسلمين التي قامت على المساواة والأخوة الإنسانية.

ومثلت الوثيقة دستورًا للتعايش القائم على أسس الديمقراطية والمواطنة، سمى بـ«وثيقة المدينة»، وجاء هذا الدستور ليشمل الجميع مع اختلاف دينهم وثقافتهم أو عرقهم، فكل طائفة أو أمة تعيش في وطن واحد وهو المدينة.

وجاء نص الوثيقة، بحسب موقع “الأزهر” كالتالي:

«هذا كتاب من محمد النبي – رسول الله- بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج ومن قعد أمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله».

 

حقوق المواطنة

وشرحت دار الإفتاء المصرية في تقرير لها، بنود “وثيقة المدينة”، حيث أكدت أن الوثيقة النبوية اشتملت على 7 بنود رئيسية، شملت اعتبار الدفاع عن الدولة وحدودها ضد الأعداء مسئولية الجميع؛ حيث تقول عن أطراف الوثيقة «عليهم النصر والعون والنصح والتناصح والبر من دون الإثم»،

كما أقرت كذلك إقرار مبدأ التكافل والتعاون بين الجيران والعصبات؛ بحيث لا يبقى في المدينة محتاج أو ذو ضائقة أو كرب إلا كان له من يقوم بشأنه.

كما أقرت الوثيقة مبدأ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، وتمثل ذلك في توافق الحقوق والواجبات وتناسقها، وضمان المساواة التامة لمواطني المدينة في المشاركة الفاعلة في مجالات الحياة المختلفة، تحقيقاً لمبدأ «المواطنة الكاملة» لكل ساكني المدينة،

وأقرت كذلك ضمان حرية الاعتقاد والتعبد؛ إذ تضمنت حقوق الأفراد جميعًا في ممارسة الشعائر الدينية الخاصة، وحقوقهم في الأمن والحرية وصون أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ودور عبادتهم.

وشملت الوثيقة الحفاظ على الأمن الاجتماعي والتعايش السلمي بين جميع مواطني دولة المدينة؛ حيث قال «إنه من خرج آمن، ومن قعد بالمدينة آمن، إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن بر واتقى».

كما حفظت حق الجار في الأمن والحفاظ عليه كالمحافظة على النفس؛ حيث قال «وإن الجار كالنفس غير مضار ولا إثم».

كذلك إقرار مبدأ المسئولية الفردية، وتبدأ هذه المسئولية من الإعلان عن النظام، وأخذ الموافقة عليه، وهو ما أكدته الوثيقة بقولها «إنه لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه وإن النصر للمظلوم»،

وتضمنت الوثيقة أيضًا التعاهد على نصرة المظلوم ونبذ الفتن والبعد عن التصارع الطائفي، وأنه لا مجال لمحاربة طائفة، أو إكراه مستضعف.

وحدة الأصل الإنساني

ويقول د. عبد الحليم منصور، عميد كلية الشريعة والقانون لصحيفة «الوطن»، إن وثيقة المدينة تعنى العيش المشترك بين فئات الشعب، وفق قواعد المساواة في الحقوق والواجبات، وعدم اضطهاد البعض بسبب العقيدة، أو اللون، أو الجنس، وتأصيل هذا المبدأ يجد أساسه إضافة إلى التطبيق العملي له من قبل المسلمين الأوائل، في وحدة الأصل الإنساني، الذي تنبثق عنه الأخوة الإنسانية، والمساواة البشرية.

ذلك أن الناس جميعاً ينتسبون إلى أصل واحد، فقال تعالى «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء»، فكل الناس سواء في أصلهم وجنسهم.

وقال تعالى «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، فالإنسان أينما كان هو أخ لغيره من الناس في كل مكان، وتفرقهم شعوباً وقبائل لا ليتناحروا، ويتنازعوا، ويتباغضوا، ولكن ليتعارفوا، وهذا التعارف يتيح لكل فريق أن ينتفع بخير ما عند الفريق الآخر.

ومن ثم فإن الإيمان الصادق بالوحدة الإنسانية، هو السبيل الأمثل لإنقاذ البشرية من كل ما تعانى منه من عصبية عرقية، أو جنسية، أو طائفية، جلبت على المجتمع الإنساني قديمًا وحديثًا أشد الأخطار وأكبر الأضرار.

ويقول الدكتور محمد عبد الله الشرقاوي – رئيس قسم الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة: لقد أسهم الأنبياء والرسل، وكثير من الفلاسفة والمصلحين والقادة في العمل على توجيه الناس إلى النعمة أو المنحة الكائنة في التعدد مثل الثراء والإشباع… لقد وضع هؤلاء مبادئ وأسسًا وقواعد وقيمًا تمكن الناس من العيش المشترك مع المختلفين معهم عرقيًا أو دينيًا أو ثقافيًا.

وأولى هذه القيم: الاعتراف بحق الآخر المختلف في الوجود، ثم القبول بوجوده، ثم التعرف عليه والتعارف معه؛ أي: التعاون والتناصر والتكامل رغم الاختلاف!، ولقد وجه الإسلام الناس إلى وحدة أصلهم، وأن تعدديتهم ضرورة لتعارفهم وتكاملهم، فكيف يحيلون تعدديتهم إلى سبب لبؤسهم وصراعهم؟!

التعددية الدينية

يقول الدكتور الشرقاوي أن تأكيد إقرار الإسلام بالتعددية الدينية جاء في (الفقرة 27) من وثيقة المدينة والتي تقول:” لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم…”، ومع ذلك هم أمة واحدة سياسيًا ودستوريًا، وإن كان لكل دينه الذي يختص به.

وهذا يذكر بما جاء بالقرآن الكريم في سورة الكافرون {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} وبقوله تعالي: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (الحج: 17).

فقد أوردت الآية أصحاب العقائد والأديان من المسلمين (المؤمنين) واليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين جنبًا إلى جنب، ثم بينت بأن سلطة الفصل بين أتباع الأديان بيد الله تعالى وحده، وأن هذا الفصل الإلهي بين أتباع الأديان موعده يوم القيامة، وليس في هذه الحياة الدنيا، وعلى أتباع الأديان أن يتعايشوا بسلام وتعاون في هذه الحياة الدنيا، وأن يقبلوا بعضهم بعضًا، وأن يقروا بحق الجميع في الوجود، وليس لأحد منهم سلطة الفصل في شأن عقائد الآخرين.

مبدأ قضائي

كما يرى الدكتور الشرقاوي أن وثيقة المدينة أسست لمبدأ قضائي مهم وهو: عدم نصرة المجرمين الآثمين وعدم إيوائهم والتستر عليهم؛ لأن في ذلك منعًا أو تعطيلا للعدالة أن تأخذ مجراها، وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثًا (أي مرتكب جريمة) أو يؤويه.

وتتوعد الصحيفة من يفعل ذلك، وأن من نصره فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه عدل (أي فداء) ولا صرف (أي توبة).

كما تقرر الصحيفة لمبدأ قضائي عدلي حكيم وهو أن المسؤولية الجنائية فردية، وبالتالي فإن العقوبة عليها لا بد أن تكون شخصية خاصة بمن ارتكب الجريمة، ولا يسد أحد مسده في تحمل العقوبة بدلا منه.

وقررت الوثيقة ذلك في أكثر من فقرة منها: «إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ (أي يهلك) إلا نفسه وأهل بيته. وأنه من فتك فبنفسه فتك وبأهل بيته. وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه، أي إن ارتكب حليفه جرما يستوجب عقوبة قضائية لا يكسب كاسب إلا على نفسه».

وهذا هو التغيير الهائل الذي أحدثه الإسلام عموما وهذه الوثيقة خصوصا في تقرير مبدأ: (المسؤولية الفردية)، وقد وضح القرآن هذا في آيات عدة، منها: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، و(كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ).

إعلان الأزهر للعيش المشترك

في ضوء وثيقة المدينة، أطلق الأزهر الشريف وثيقته التاريخية التي حملت عنوان: «إعلان الأزهر للمواطنة والعيش المشترك» في عام 2017.

وأكد الأزهر في هذا الإعلان أن المسلمين والمسيحيين أخوة في الإنسانية، وشركاء في الوطن، وجميعهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، ونص على أن «المواطنة» مصطلح أصيل في الإسلام، وقد شعت أنواره الأولى من دستور المدينة، وما تلاه من كتب وعهود لنبى الله -صلى الله عليه وسلم- يحدد فيها علاقة المسلمين بغير المسلمين.

ولذلك يبادر الإعلان إلى التأكيد على أن المواطنة ليست حلاً مستوردًا، وإنما هي استدعاء لأول ممارسة إسلامية لنظام الحكم طبقه النبي -صلى الله عليه وسلم- في أول مجتمع إسلامي أسسه، وهو دولة المدينة، كما نص الإعلان على أن هذه الممارسة لم تتضمن أي قدر من التفرقة أو الإقصاء لأي فئة من فئات المجتمع آنذاك، وإنما تضمنت سياسات تقوم على التعددية الدينية والعرقية والاجتماعية، وهى تعددية لا يمكن أن تعمل إلا في إطار المواطنة الكاملة والمساواة، التي تمثلت بالنص في دستور المدينة على أن الفئات الاجتماعية المختلفة ديناً وعرقاً هم أمة واحدة من دون الناس، وأن غير المسلمين لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.

وأكد الإعلان، بحسب عرض الأزهر له، على أن تبنى مفاهيم المواطنة والمساواة والحقوق يستلزم بالضرورة إدانة التصرفات التي تتعارض ومبدأ المواطنة، من ممارسات لا تقرها شريعة الإسلام، وتنبنى على أساس التمييز بين المسلم وغير المسلم، وتترتب عليها ممارسات الازدراء والتهميش والكيل بمكيالين، فضلاً عن الملاحقة والتضييق والتهجير والقتل، وما إلى ذلك من سلوكيات يرفضها الإسلام، وتأباها كل الأديان والأعراف.

وأوضح الإعلان أن أول عوامل التماسك وتعزيز الإرادة المشتركة يتمثل في الدولة الوطنية الدستورية القائمة على مبادئ المواطنة والمساواة وحكم القانون، وعلى ذلك فإن استبعاد مفهوم المواطنة بوصفه عقداً بين المواطنين – مجتمعات ودولاً- يؤدى إلى فشل الدول والمؤسسات الدينية والنخب الثقافية والسياسية، وضرب التنمية والتقدم، وتمكين المتربصين بالدولة والاستقرار من العبث بمصائر الأوطان ومقدراتها.

وأوضح الإعلان أننا أهل سفينة واحدة، ومجتمع واحد، نواجه مخاطر مشتركة تهددنا في حياتنا ومجتمعاتنا ودولنا وأدياننا كافة، ونريد بالإرادة المشتركة، وبالانتماء المشترك، وبالمصير المشترك، أن نسهم معاً عن طريق العمل الجاد في إنقاذ مجتمعاتنا ودولنا، وتصحيح علاقاتنا بالعالم، حتى نوفر لأبنائنا وبناتنا فرصاً في مستقبل واعد، وحياة أفضل.

واختتم الإعلان بالتأكيد على أن المجتمعين، مسلمين ومسيحيين، يجددون عهود أخوتهم، ورفضهم أى محاولات من شأنها التفرقة بينهم، وإظهار أن المسيحيين مستهدفون فى أوطانهم، ويؤكدون أنه مهما فعل – ويفعل- الإرهاب بيننا في محاولة للإساءة إلى تجربتنا المشتركة، واستهداف مقومات الحياة في مجتمعاتنا لن ينال من عزيمتنا على مواصلة العيش الواحد وتطويره والتأكيد على المواطنة فكراً وممارسة.

وثيقة الأخوة الإنسانية

وفى العام الجاري 2019 أطلق الأزهر وثيقة «الأخوة الإنسانية» أمام اللقاء العالمي للإخوة الإنسانية بالعاصمة الإماراتية أبوظبى، وبمشاركة البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان.

ودعت هذه الوثيقة لنشر ثقافة السلام والعدالة واحترام الغير والرفاهية للبشريَّة جمعاء، بديلاً عن ثقافة الكراهية والظلم والعُنف والدِّماء.

كما تطالب وثيقة الأخوة الإنسانية قادة العالم وصُنَّاع السياسات، ومَن بأيديهم مصائر الشعوب وموازين القُوى بالتدخل الفوري لوضع نهاية فورية لما يشهده العالم من حروب وصراعات، كما دعت الوثيقة لوقف استخدام الأديان والمذاهب فى تأجيج الكراهية والعنف والتعصُّب الأعمى، والكفِّ عن استخدام اسم الله لتبرير أعمال القتل والتشريد والإرهاب والبطش.

وأكدت براءة الأديان من «الإرهاب»، ودعت الوثيقة المسلمين في الشرق أن يستمروا في احتضان إخوتهم من المواطنين المسيحيين، وأكدت للمسيحيِّين، أنهم جزء من هذه الأُمَّة، ودعت المسلمين في الغرب للتعايش والاندماج وألا ينظروا لأنفسهم كأقليات.

قواسم مشتركة

في كلمته أمام مؤتمر”حوار السلام والطمأنينة” الذي نظمته المنظمة العالمية لخريجي الأزهر ورهبنة فرنسيسكان مصر، مطلع مارس الماضي، قال وكيل الأزهر الشريف، الشيخ صالح عباس، إن التسامح والتعايش المشترك، قواسم مشتركة تربط بني الإنسان، رسختها جميع الأديان السماوية.

وأضاف أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما استقر بالمدينة المنورة أسس لنظام التعايش السلمي ونمط المعيشة العادلة بين المهاجرين والأنصار والوثنيين واليهود وغير ذلك من الأديان والعقائد”.

وتابع “أهم الأسس التي رسخها الرسول، في المدينة المنورة، العدالة والبر والحرية وحسن المعاملة والسلام”.

وأشار إلى أن معظم الكنائس في مصر بناها الصحابة لأن جميع الأديان دعت للتسامح والتعايش المشترك.

وقال إن الرسول بدأ دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة وبالرفق واللين مع احترام آدمية الإنسان من مبدأ التكريم الإلهي للإنسان. ولفت إلى أن جميع الأديان رسخت منهاج السلام والتسامح.

وأوضح أن هناك صحوة خلال العصر الحديث بين العقلاء والحكماء من جميع الأديان، مشيرًا إلى أن وثيقة الأخوة الإنسانية الموقعة بين شيخ الأزهر الشريف وبابا الفاتيكان رسخت للسلام الكامل بين المجتمعات وأتباع الديانات.

في النهاية وجب أن نؤكد أن وثيقة المدينة تحتاج إلى دراسةٍ متخصِّصَةٍ لاستقصاء الجوانب المتعلِّقَة بالمشتركات الإنسانيَّة، وما أكثرها فيها، فهي من أقدم الوثائق الدستوريَّة في العالم، وقد استطاعت أن تُحَقِّقَ التعايش المشترك بين طوائف كانت متباعدةً كلَّ التباعد، متناحرةً كلَّ التناحر؛ وخاصَّةً أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حرص على تفعيلها وتطبيقها منذ اليوم الأوَّل من كتابتها، ونجحت في التعامل مع جميع الأطياف في المدينة المنورة، وبقي أن نطبقها في حياتنا حاليًا للنعم بالأمن والاستقرار ونحقق التعايش السلمي المشترك بين كل الشعوب.

تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى