تقارير

السترات الصفراء تهدد عرش ماكرون واستقرار أوروبا

إعداد وتحرير: علي البلهاسي

دخلت احتجاجات حركة “السترات الصفراء” في فرنسا أسبوعها الرابع على التوالي، بعد أن تجددت يوم السبت 8 ديسمبر في العاصمة باريس وعدة مدن أخرى، وشهدت الاحتجاجات تطورًا لافتًا هذا الأسبوع بعد أن حاول المحتجون الوصول إلى قصر الإليزيه، مطالبين برحيل الرئيس ماكرون، ورفع بعضهم لافتات تدعو إلى خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي.

واندلعت احتجاجات هذه الحركة في نوفمبر الماضي، إثر قرار رفع أسعار الوقود الذي تراجعت عنه حكومة ماكرون، لكن المتظاهرين رفعوا سقف مطالبهم، وهتفوا مطالبين بإقالة الرئيس، الذي حملوه مسؤولية التوتر الذي ساد البلاد، وارتفاع تكاليف المعيشة بعد ارتفاع الضرائب وتراجع القدرة الشرائية.

مواجهات عنيفة

جاء تجدد الاحتجاجات هذه المرة وسط إجراءات أمنية غير مسبوقة، لتجنب تكرار أحداث الفوضى التي وقعت من قبل، عندما أضرم المحتجون النار في السيارات ونهبوا المحلات في شارع الشانزلزيه وشوهوا قوس النصر برسم جرافيتي يستهدف الرئيس ماكرون.

وفي هذا الإطار قامت السلطات الفرنسية بنشر 89 ألف شرطي، كما تم إغلاق العديد من الأماكن، لكن ذلك لم يمنع اندلاع مواجهات عنيفة بين الشرطة والمحتجين ووقوع أعمال عنف وتخريب، الأمر الذي دفع السلطات إلى نشر مدرعات للمرة الأولى في العاصمة منذ سنوات.

وأعلنت وزارة الداخلية الفرنسية أن عدد المتظاهرين من السترات الصفراء في فرنسا وصل إلى 125 ألفا. وأشارت إلى أن عدد الموقوفين على خلفية الاحتجاجات بلغ 1385 شخصا. فيما ارتفع عدد المصابين جرّاء الاحتجاجات إلى 118 بينهم 17 من الشرطة.

وأطلقت الشرطة الغاز المسيل للدموع كما استخدمت القنابل الصوتية وخراطيم المياه الساخنة لتفريق المحتجين. فيما أفادت وسائل إعلامية إصابة 30 شخصًا بينهم 3 من قوات الأمن خلال المواجهات.

كما وقعت مواجهات قوية بين صحفيين ومتظاهرين في باريس. وقال موقع صحيفة “لو فيغارو” الفرنسي، إن بعض المتظاهرين عنفوا عددا من الصحفيين، بعدما استولوا على كاميراتهم وأجهزة التسجيل الخاصة بهم ومنعوهم من إكمال عملهم.

وأضرم المتظاهرون النيران في الأشجار بمنطقة الشانزلزيه، وسط باريس، بعد أن اقتلعوا الأسوار حولها.

تطورات الأزمة

بدأت الأزمة في فرنسا العام الماضي، حين طرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ضرائب إضافية على الوقود والبنزين، تمهيدًا لتشجيع المواطنين لاستخدام وسائل مناسبة للبيئة، وفي غضون عام ارتفعت أسعار الوقود بنسبة 23% على الديزل و14% على البنزين، فيما ترغب الحكومة في رفعها مرة أخرى بداية العام المقبل.

وفي نهاية أكتوبر الماضي، بدأت الاحتجاجات بشكاوى مشتركة بين مجموعات من الأصدقاء على موقع “فيسبوك”، من زيادة أسعار الديزل. وفي 11 نوفمبر الماضي، تجمّع مئات الآلاف حول البلاد للتظاهر ضد ارتفاع أسعار الوقود، معتبرين إياها تمثل أعباء غير عادلة لملايين المواطنين الذين يعيشون في البلدات الصغيرة والريف، حيث لا يمكنهم التنقل عبر وسائل النقل العام أو الدراجات البخارية الكهربائية.

وشارك في الاحتجاجات، حينها، ما يقرب من 300 ألف شخص، إذ تم عرقلة الطرق والطرق السريعة، ولقيت إحدى المتظاهرات مصرعها بعد دهسها من قبل أحد سائقي السيارات، بالإضافة إلى عدد كبير من الإصابات، ما يقرب من 600 جريح.

ولأكثر من أسبوع، حجب متظاهرون يرتدون السترات الصفراء الطرق السريعة في جميع أنحاء البلاد بحواجز محترقة وقوافل من الشاحنات بطيئة الحركة، وعرقلوا الوصول إلى مستودعات الوقود ومراكز التسوق وبعض المصانع.

وبعد أسبوع تقريبًا من أول موجة للاحتجاجات، ظهر أصحاب “السترات الصفراء” مرة أخرى، وتجمع المتظاهرون بأعداد أقل نسبيًا، ما جعل الشرطة الفرنسية تستخدم الغاز المسيل للدموع ومدافع المياه لصدّ وتفرقة المتظاهرين.

وزحف مئات المتظاهرين إلى الشانزليزيه لمواجهة الشرطة التي منعتهم من الوصول إلى قصر الإليزيه الرئاسي والمباني الرئيسية مثل المقر الرسمي لرئيس الوزراء.

ومع دخول الاحتجاجات أسبوعها الثالث بدأت تشهد أحداثًا عنيفة، مما دفع سلطات العاصمة باريس بحماية مواقعها الشهيرة، حيث تم إغلاق عدد من المتاحف، بما فيها اللوفر وأورساي، ودور الأوبرا ومجمع القصر الكبير. كما جرى تأجيل العديد من مباريات كرة القدم.

الحكومة تدعو للحوار

من جانبه دعا رئيس الوزراء الفرنسي إدوار فيليب إلى “الحوار” متعهدًا بأن تعالج الحكومة المخاوف بخصوص ارتفاع كلفة الحياة. وقال فيليب في بيان متلفز إن “الحوار بدأ ويجب أن يتواصل”، مؤكدا أن “الرئيس سيتحدث ويقدم إجراءات تغذي هذا الحوار”.

وقال فيليب إن قوات الأمن تصدت لمخربين تسللوا بين المحتجين، داعيًا المحتجين السلميين على عدم الاختلاط مع من يرغبون في الاشتباك مع قوات إنفاذ القانون، ومن يخرجون إلى الشوارع بغرض السرقة والنهب.

وتقدم رئس الوزراء الفرنسي بالشكر إلى المسئولين السياسيين والنقابات والجمعيات والمواطنين الذين دعوا إلى التهدئة، معربا عن رغبته في مواصلة الحوار مع ممثلي حركة “السترات الصفراء”، مشيرًا إلى أن باب الحوار مع أصحاب “السترات الصفراء” ما زال مفتوحًا.

لكن الحركة تعاني من عدم وجود زعيم لها، وهو ما يصعب من مهمة الحكومة في التفاوض معها، ويؤدي إلى وجود تناقضات داخل الحركة بسبب تعدد القيادات، حيث أعلن 8 من المحتجين أنفسهم زعماء، من دون الاتفاق على ناطق واحد أو قيادة محددة، وعندما دعا رئيس الوزراء إدوارد فيليب، ممثلى الحركة للقاء بقصر ماتينيون، حضر اثنان فقط من ثمانية، وأعلن بعض أصحاب السترات الصفراء عدم اعترافهم بهؤلاء كممثلين لهم أو متحدثين باسمهم.

فيما أعلن وزير الداخلية الفرنسي كريستوف كاستنير أن مظاهرات “السترات الصفراء” باتت تحت السيطرة. وأكد كاستنير، في تصريحات صحفية، أن “قوات الشرطة ستظل موجودة بكثافة في أماكن الاحتجاجات حتى الأحد إذا لزم الأمر”.​

وكان وزير الداخلية الفرنسي قد وصف حركة الاحتجاج بأنها “وحش خرج عن سيطرة مبتكريه”. معتبرًا أن هناك “عناصر متطرفة” تحرك الاحتجاجات.

وتقول السلطات الفرنسية إن الاحتجاجات اختطفتها عناصر يمينية متطرفة وعناصر فوضوية تصر على العنف وتثير الاضطرابات الاجتماعية في تحد مباشر لماكرون وقوات الأمن.

ولم يستبعد كاستانير فرض حالة الطوارئ في البلاد لمواجهة الاحتجاجات بناء على طلب عدد من النقابات والشرطة. وأضاف: “ندرس كل الإجراءات التي ستسمح لنا بفرض مزيد من الإجراءات لضمان الأمن”. وكانت فرنسا فرضت حالة الطوارئ بعد اعتداءات شهدتها باريس في 2015.

استجابة متأخرة

وبدأت حركة “السترات الصفراء” احتجاجات واسعة في جميع أنحاء فرنسا منذ الشهر الماضي بسبب زيادة الضرائب على الوقود، وارتفاع تكاليف المعيشة، ومنذ ذلك الحين تحولت المظاهرات إلى تمرد واسع شابه العنف في بعض الأحيان.

وأمام تصاعد الاحتجاجات اضطر الرئيس ماكرون للقيام بأول تنازل كبير في رئاسته بالتخلي عن ضريبة الوقود، وقالت الحكومة الفرنسية إنها ستجمد القرار المثير للجدل بزيادة ضريبة الوقود في ميزانيتها، إلا أن المحتجين عبروا عن عدم رضاهم عن أداء الحكومة.

وتحولت الاحتجاجات لتثير عددًا من القضايا الأخرى ومن بينها ضريبة الثروة المثيرة للجدل، التي تقتصر على صفقات الممتلكات الفاخرة والأصول العقارية، وتم تطبيقها فقط على الأشخاص الذين يمتلكون أصولا صافية خاضعة للضريبة تزيد قيمتها على 1.3 مليون يورو.

وهو ما أثار انتقادات وصفت الرئيس ماكرون بأنه «رئيس الأغنياء»، لأنها خففت من عبء الضريبة على الكثير من الأثرياء.

وأعلنت الحكومة فيما بعد أنها قد تغير موقفها من ضريبة الثروة، وذلك في ثاني تراجع لها عن الإجراءات الاقتصادية التي فجرت الاحتجاجات. وبالفعل غيرت الحكومة بعض معايير ضريبة الثروة، وأمام استمرار الاحتجاجات أعلن رئيس الوزراء تعليق الضرائب لمدة ستة أشهر، ثم أعلن قصر الإليزيه إلغاءها.

وقال خبراء إن التراجع الحكومي عن الضرائب لم يطفئ غضب المحتجين الذين باتوا يشعرون بأن فرنسا بدأت تتخلى تدريجيا عن الدور الاجتماعي للدولة، لصالح الأبجديات الليبرالية ‘المتوحشة' التي تثقل كاهل الطبقات الوسطى والفقيرة بالضرائب مقابل تخفيف الحمل عن الأثرياء بالتخفيض في الضريبة على الثروة.

لكن الحكومة الفرنسية تقول إن التخفيف في ضريبة الثروة يحمل أبعادا اقتصادية، حيث تسعى الحكومة من خلالها إلى كبح مغادرة رجال الأعمال الفرنسيين للبلاد بسبب ارتفاع الضرائب المفروضة عليهم، إلا أن ذلك يبدو غير مقنع لأغلبية الفرنسيين.

ويبدو أن ما قدمته الحكومة الفرنسية من تنازلات لم ينجح في إقناع المحتجين الذين واصلوا احتجاجاتهم مطالبين بتنازلات أكثر من الحكومة، بما في ذلك خفض الضرائب وزيادة الرواتب وخفض تكاليف الطاقة وحتى استقالة ماكرون.

من هم أصحاب السترات الصفراء؟

يطلق اسم حركة “السترات الصفراء” على المحتجين في فرنسا، لأنهم خرجوا إلى الشوارع مرتدين السترات الخاصة بالرؤية الليلية التي يُلزم القانون بوجودها داخل كل مركبة، عند الخروج على الطريق في حالات الطوارئ.

وانطلقت الحركة بعريضة نشرت على الإنترنت للتنديد بارتفاع أسعار الوقود، ثم قامت بتدشين عدة صفحات على فيسبوك وموقع الكتروني خاص بالتظاهر الاحتجاجي. وكتبت الحركة عبر صفحتها على فيسبوك، والتي تضم ما يقرب من 25 ألف مُتابع، توضيحًا بالفرنسية مفاده: “لسنا جزءًا من أي منظمة (أو حزب سياسي). هذه الاحتجاجات شعبية من الألف إلى الياء”.

وفي 17 تشرين الثاني/نوفمبر، قررت الحركة احتجاجها الإلكتروني إلى احتجاج شعبي عارم في الشارع. وكانت الحركة تحتج بشكل أساسي في البداية على ارتفاع حاد في أسعار الوقود، إلا أن مطالبهم تطورت فيما بعد لتشمل الوضع المعيشي وغلاء الأسعار وهبوط القيمة الشرائية وتدهور الخدمات العامة.

وتضم الحركة مجموعة غير متجانسة من المتظاهرين الذين تختلف أعمارهم ووظائفهم والمناطق الجغرافية التي ينتمون إليها، كما تضم شبابا عاطلين عن العمل ومتقاعدين من ذوي المعاشات المنخفضة للغاية وأشخاصا يحصلون على الحد الأدنى للأجور فقط.

وهناك أيضاً نشطاء ينتمون إلى اليمين المتطرف واليسار المتطرف انضموا إلى الحركة الاحتجاجية، لكن بعض المتظاهرين سعوا إلى الابتعاد عن كل أشكال التطرف الحزبي والعنف.

تجاوب سياسي وشعبي

اكتسبت هذه الحركة الاحتجاجية زخمًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وجذبت إليها فئات مختلفة من أقصى اليسار إلى القوميين في أقصى اليمين، إضافة إلى مشاركين من تيار الوسط أيضًا.

وتتمتع الحركة غير السياسية بدعم شعبي على نطاق واسع، وأظهر استطلاع حديث أجرته مؤسسة “هاريس أنتراكتيف” لوسائل الإعلام الفرنسية “آر تي أل” و”أم6″ أن 72 في المائة من الفرنسيين يؤيدون حركة “السترات الصفراء”، لكن 85 في المائة ممن شملهم الاستطلاع أكدوا رفضهم لاستخدام العنف أو اللجوء إليه.

كما حظيت الحركة بدعم أحزاب من اليمين مثل الجمهوريين واليمين المتطرف مثل “التجمع الوطني”، إلى جانب حزب “فرنسا الأبية” اليساري، بقيادة النائب جان لوك ميلانشون، الذي أعلن دعمه للحركة.

أما زعيم حركة “الجيل سين” اليسارية، بونوا هامون، فأعلن دعمه مطالب المعتصمين، لكنه رفض الدعوة للانضمام إليهم في الشوارع، معتبرًا أن حركته اليسارية “لا تشارك بتحركات يستغلها اليمين المتطرف لمصلحته الخاصة”، بحسب قوله.

احتجاجات أخرى

كما أعلن طلاب الجامعات وسائقو الشاحنات ونقابات المزارعين واتحادات التجارة انضمامهم لموجة الاحتجاجات من خلال مظاهرات فئوية تتزامن مع مظاهرات حركة السترات الصفراء. وأعلنت فيه النقابات الطلابية بباريس تضامنها مع السترات الصفراء احتجاجا على تشديد شروط دخول الجامعات

وبدأت الإضرابات بتعطيل حركة الدراسة في جامعة تولبيياك بقلب العاصمة. وانضم طلاب المدارس إلى الاحتجاجات، حيث خرجت تظاهرات من نحو 280 مدرسة، وألقي القبض على أكثر من 140 شخصًا بعد أن أفضى احتجاج أقيم خارج مدرسة بمنطقة غرب باريس إلى اشتباكات مع الشرطة، وإشعال النيران في سيارتين.

إلا أن مشاهد لاعتقال الطلبة وإجبارهم على الانحناء وأيديهم خلف رؤوسهم، أثارت غضبًا على مواقع التواصل الاجتماعي التي اعتبر مستخدموها أن إرغام الطلاب على الوقوف ووجوههم إلى الحائط، كان أشبه بإعدام جماعي، مشيرين إلى أنه أمر لا يليق بدولة ديمقراطية.

لكن وزير الداخلية كريستوف كاستانير دافع عن أساليب الشرطة، قائلاً: «انضمّ إلى الطلاب حوالي مئة شاب ملثم يحملون هراوات وقنابل حارقة، أصرّوا على الاشتباك مع الشرطة… هذا هو السياق الذي تدخلت فيه قوات الأمن».

من ناحية أخرى أعلنت نقابة الشرطة الفرنسية Vigi، إضرابًا مفتوحًا تزامنا مع إضراب حركة “السترات الصفراء”. وصرح نقيب الشرطة ألكساندر لانغولا بأن أفراد الشرطة لن ينظموا إلى احتجاجات “السترات الصفراء” لكنهم يريدون تقديم الدعم لهم.

حالة الاقتصاد

احتجاجات حركة “السترات الصفراء”، أثرت بشكل كبير على اقتصاد فرنسا، وذلك بحسب ما ذكره وزير الاقتصاد برونو لومير. وأضاف أن إيرادات بعض القطاعات على غرار قطاع سلسلة الفنادق والمحلات التجارية والمطاعم التي تنشط في الشوارع الرئيسية تضررت بنسبة تتراوح بين 15 إلى 50 في المائة.

فيما أكد وزير المالية الفرنسي جيرالد دارماتان، أن “إلغاء الضرائب سيكلف الحكومة الفرنسية أربعة مليارات يورو ما يعادل 4.53 مليارات دولار”، إلا أنه أشار إلى أن حكومة بلاده ستحافظ مع ذلك على أوضاعها المالية العام المقبل.

وفى غضون ذلك، كشف تقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن فرنسا تخطت الدنمارك لتسجل أعلى إيرادات ضريبية بين البلدان المتقدمة في عام 2017، حيث شهدت حصيلة الضرائب الحكومية مستوى قياسيًا مرتفعًا. وأوضحت المنظمة أن إيرادات الضرائب الحكومية في فرنسا زادت إلى 46.2% من الناتج المحلى الإجمالي متخطية الدنمارك التي تراجع المعدل بها إلى 46%.

وربما تكون الأوضاع الاقتصادية في فرنسا بمثابة الدخان الذي أشعل فتيل الاضطرابات الأسوأ التي تشهدها فرنسا منذ الاحتجاجات الطلابية عام 1968. وشرح تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز قبل أيام أهم الأرقام الاقتصادية في فرنسا.

وتعاني فرنسا مثلها مثل البلدان الغربية الأخرى، من فجوة عميقة بين الأثرياء والفقراء في البلاد البالغ تعداد سكانها أكثر من 67 مليون شخص. وهناك 20 في المائة في أعلى قمة الهرم يكسبون خمسة أمثال أكبر من الـ20 في المائة في قاع الهرم.

وهناك نسبة 1 في المائة من أثرياء فرنسا يملكون أكثر من 20 في المائة من الثروة الاقتصادية في البلاد. ويبلغ متوسط دخل الفرد 1700 يورو شهريا، ما يعني أن نصف العمال في فرنسا دخلهم الشهري أقل من ذلك. وبالنظر إلى أغلبية المطالب التي ترفعها الحركة الاحتجاجية “السترات الصفراء”، نرى أن المحتجين يتظاهرون بسبب صعوبات دفع إيجارات السكن وتوفير الطعام لعائلاتهم وتوفير تكاليف المعيشة في العموم وليس أسعار الوقود فحسب.

من ناحية أخرى  فإن معدل النمو السنوي تباطأ إلى 1.8 في المائة بالتوازي مع تباطؤ بقية منطقة اليورو. وتسبب تباطؤ النمو في صعوبات أمام الحكومة الفرنسية في مساعيها لحل مشكلة البطالة. فنسبة البطالة في فرنسا تتراوح بين 9 و11 في المائة منذ 2009، عندما ضربت أزمة الديون منطقة اليورو. وانخفضت النسبة إلى 9.1 في المائة اليوم من 10.1 في المائة عند انتخاب ماكرون.

ماكرون.. المشكلة والحل

تعد هذه الأزمة هي أكبر أزمة تواجه الرئيس ماكرون منذ انتخابه قبل 18 شهرًا، ورغم أنه ترك لرئيس الوزراء إدوار فيليب التعامل مع الاضطرابات وتقديم تنازلات، إلا أنه يتعرض لضغوط للتحدث، بينما تحاول إدارته استعادة زمام المبادرة.

ولم يتحدث ماكرون علانية منذ أدان الاضطرابات أثناء قمة مجموعة العشرين في الأرجنتين، لكن مكتبه قال إنه سيلقي كلمة للأمة هذا الأسبوع.

وتزايدت في الأيام الأخيرة الدعوات إلى الرئيس من أجل أن يشرح موقفه للفرنسيين، فيما امتنع الرئيس عن الإدلاء بأي تصريحات علنية. وقال رئيس الجمعية الوطنية ريشار فيران إن الرئيس “لا يود صب الزيت على النار”. وقال عضو في الغالبية الحاكمة إن ماكرون “يدرك أنه مستهدف شخصيا” من المحتجين، وأن كلامه “قد يؤجج غضب الأكثر راديكالية”.

وانتقد المحتجون أيضا تغيّب الرئيس. وقالت مارين شاريت لابادي، وهي من اوائل الذين نزلوا إلى الشارع في بريف جنوب غرب فرنسا: “على ماكرون أن يتكلم بنفسه. لدينا انطباع أنه لا يكترث… النقمة تزداد، لأننا لا نسمع صوته”.

وكان ماكرون قد تحدث في الخريف، وأقر بأخطاء ارتكبها، واعترف بأنّه لم “ينجح في مصالحة الشعب الفرنسي مع قادته”، واعدا بأن يحكم “بطريقة مغايرة”. لكن هذا لم يسمح له بوقف تدهور شعبيته.

وفي مواجهة مثل هذه الريبة لدى المواطنين، قال عضو في الغالبية إنه “سيتحتم عليه أن يجد الكلمات المناسبة، ليس لوقف الأزمة فحسب، إنما أيضا لمعاودة إطلاق ولايته من الصفر، أو ما يقارب الصفر”.

وأظهر استطلاع أجرته شركة “إيلاب” للأبحاث، أن 78 في المائة من الفرنسيين يعتقدون أن التدابير التي أعلن عنها ماكرون لم تكن كافية لتلبية مطالب أصحاب “السترات الصفراء”.

كما أظهر استطلاع آخر تراجع التأييد الشعبي لماكرون خلال الاحتجاجات من 21 في المائة الشهر المنصرم إلى 18 في المائة الشهر الجاري، وهو “التأييد الشعبي الأقل”.

وبشكل عام، تُشير الاستطلاعات إلى صعوبة إقناع ماكرون لأصحاب “السترات الصفراء” الذين يصرون على مواصلة المظاهرات مدة طويلة.

وطرحت مجلة “ناشونال إنترست” الأميركية إمكانية محاولة ماكرون بعد تراجعه عن الضرائب، تعديل أولويات الإنفاق، مشددةً على صعوبة هذه الخطوة، نظراً إلى أنّه سعى إلى إبقاء نسبة العجز أدنى من 3% من قيمة إجمالي الناتج المحلي (النسبة المتفق عليها في الاتحاد الأوروبي).

وتساءلت المجلة عن الخيارات المتوفرة أمام ماكرون، قائلةً: “يمكنه، إذ ما تعرض لضغوطات إضافية، تعديل الحكومة بموجب الدستور، وبالتالي إقالة رئيس الوزراء إدوار فيليب واستبداله بشخصية أكثر استجابة للشعب. أمّا إذا تدهورت الأوضاع أكثر، فيمكن للرئيس إعلان حالة طوارئ، إلاّ أنّ ماكرون يدرك جيداً أنّ هذه الخطوة أدت إلى الانفجار الوطني الذي هز فرنسا في العام 1968 والذي بدأ كحركة طلابية وما لبث أن توسع بعدما ردّت الحكومة بحزم واستعملت القوة، وهو ما أكسب الحركة تعاطفاً لدى القسم الأكبر من الفرنسيين”.

مستقبل ماكرون

عندما وصل إيمانويل ماكرون إلى الرئاسة في 2017 توقع الجميع أن يرى فرنسا شابة وقوبة، إلا أن ما حدث كان عكس كل التوقعات، فقد أصبح – بسبب سياسته الاقتصادية وتصريحاته الصادمة – رئيس الأغنياء، والذي تطالب المعارضة كلها بالإطاحة به دون انتظار لانتهاء ولايته في 2022.

ويمتلك ماكرون تاريخًا من التصريحات الصادمة تجاه العمال بشكل خاص، حيث سبق له أن وصف عمال أحد المصانع الخاسرة والتي ستوقف عن العمل بالكسالى الذين يجب أن يبحثون عن وظيفة توفر لهم مصدر دخل.

وخرجت الاحتجاجات الأخيرة لتطالبه بالتراجع عن الإجراءات الاقتصادية والضرائب المفروضة على الشعب، والتي سيعاني منها العمال وليس الطبقة الغنية.

ومع اشتداد المظاهرات خرج ماكرون ليصف المتظاهرين الذي ارتدوا السترات الصفراء بمثيري الشغب، وأنه لن يقدم لهم أي تنازل على الإطلاق، لتشتد وتيرة التظاهر وتبدأ عمليات التخريب.

ويرى مراقبون أن العبارات المكتوبة على الجدران والسترات الصفراء التي ارتداها المتظاهرون تشير إلى أنهم لن يتراجعوا لحين إسقاط ماكرون. وقالوا إن الأزمة الحالية ما تزال قائمة ومفتوحة على احتمالات عديدة، من بينها أن تتماثل نتائجها مع مظاهرات مايو 1968 التي أفضت إلى استقالة ديغول.

لكن خبراء يرو أنه على الرغم من تعقيد الوضع، إلا أنه لن يقود إلى استقالة ماكرون، وأنه إذا اتجه الموقف نحو السيناريو الأسوأ، فسيؤدي إلى استقالة الحكومة، ففي فرنسا، كان رئيس الوزراء دائماً يلعب دور كبش الفداء عندما تتعثر أمور الرئيس.

زتشير تقارير إعلامية فرنسية إلى أن الاحتجاجات الأخيرة تسببت بمشاكل بين ماكرون ورئيس الوزراء إدوارد فيليب. ونشرت إذاعة “Europe 1” تقريرًا أشارت إلى أن فيليب لم يستطع إدارة الأزمة بشكل جيد الأمر الذي أدى إلى إضعافه سياسيًا.

ويشير الخبراء إلى أن أقصى خطوة مصيرية يمكن أن يقوم بها ماكرون هي حل الجمعية الوطنية (مجلس النواب) والإعلان عن إجراء انتخابات مبكرة. الأمر الذي طالبت زعيمة حزب الاتحاد الوطني، مارين لوبان، الرئيس به. لكن في حالة الانتخابات المبكرة، سيخاطر حزب ماكرون بفقدان موقعه في البرلمان.

وتمثل الدعوات بإسقاط الرئيس ماكرون فرصة لتيار اليمين المتطرف لاقتناص السلطة، وفى هذا الإطار، نجحت زعيمة التيار اليميني مارين لوبان من تقديم أوراق اعتمادها باعتبارها منافسا شرسا على السلطة، حيث خاضت جولة الإعادة في مواجهة الرئيس الحالي ماكرون، بينما جاءت خسارتها بفارق ضئيل من الأصوات، وبالتالي فهي ترى أن المظاهرات الحالية هي فرصة ربما لا تتكرر لإحياء حلم دخول “الإليزيه” من بوابتها، بعدما فشلت في دخوله من بوابة الانتخابات.

هل بدأ الخريف الأوروبي؟

لكن مراقبون يرون أن رضوخ الحكومة الفرنسية لمطالب حركة السترات الصفراء سيؤدي إلى امتداد عدوى الاحتجاجات إلى مدن أوروبية أخرى. فلم تكد الحكومة الفرنسية تنظم حوارا مع حركة الاحتجاج بها حتى بدأت الاحتجاجات تتمدد وتسري عدواها في عواصم أوروبية أخرى، بما في ذلك بروكسل وأمستردام وصوفيا، بالإضافة إلى حالة من الحشد تشهدها دولا أخرى، على رأسها ألمانيا وبريطانيا وغيرها، وهو ما يطرح تساؤلات حول ما إذا كان “الخريف” الأوروبي على أبواب القارة العجوز، في ظل معطيات مهمة لا تقتصر على دول بعينها وإنما تمتد لكافة دولها.

ويعزز ذلك قول أحد المتظاهرين للصحفيين: “السترات الصفراء كانت بداية لشيء أكبر من ذلك بكثير، نريد لهذه الحركة أن تنتشر، لقد بدأت في فرنسا، ونريدها أن تستمر في ألمانيا وهولندا عبر أوروبا حتى إلى بريطانيا”.

وبدأت تلك الحركة في الانتشار بالفعل في بلجيكا حث ارتدى مئات الأشخاص السترات الصفراء واحتجوا خارج مباني الاتحاد الأوروبي الرئيسية في بروكسل، وحطم المتظاهرون لافتات الشوارع وإشارات مرور بالقرب من حاجز للشرطة، بعد منعهم من الوصول إلى مكتب رئيس الوزراء تشارلز ميشيل في العاصمة بروكسل، ورددوا شعارات تطالبه بالاستقالة.

كما انضمت هولندا أيضًا إلى موجات الغضب العارمة التي تسللت إلى القارة الأوروبية، حيث طالب متظاهرو «السترات الصفراء» هناك الحكومة بتقديم استقالتها، خلال الاحتجاجات التي شهدتها مدن لاهاي، وأمستردام، وروتردام، حيث ردد المتظاهرون هتافات تطالب باستقالة رئيس الوزراء مارك روته.

أما في بلغاريا (البلد الأفقر في الاتحاد الأوروبي) فكان الاحتجاج على ارتفاع سعر البنزين، حيث ظهرت حركة السترات الصفراء منذ 11 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لكنها لا تزال محدودة.

وفي ألمانيا وجد اليمين المتطرف في السترات الصفراء زيًا جديدًا، ودعت ثلاث من منظماته إلى “مظاهرة بالسترات الصفراء” أمام بوابة براندنبورغ في برلين، للاحتجاج على ورقة ميثاق الأمم المتحدة “من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة والمنتظمة” التي وافق عليها البرلمان الألماني.

وتنقل لوفيغارو عن أحد المحتجين في ألمانيا في رد له على سؤال حول السبب في ارتداء السترة الصفراء قوله إن نضالهم يلتقي مع نضال السترات الصفراء الفرنسية، فهم يريدون التخلص من ميركل، وفي فرنسا يريد الفرنسيون التخلص من ماكرون “لكن هدفنا واحد وهو استعادة السلطة للشعوب الأوروبية”.

تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى