رأي

هلع إيران من صحوة المواطنة في طرفي هلالها

بقلم/علي القاسم

معروفٌ لدى الجميع أن العراق ولبنان بينهما ثلاثة قواسم مشتركة، فعلى صعيد النظام الحاكم تُنظِّم ديمقراطية التوافق إيقاع الحياة السياسية، والمكونة من أحزاب متنوعة تنتمي لطوائف وأعراق متعددة، وهذا التنوع المشار إليه يعد القاسم المشترك الثاني بين بلاد الرافدين وارض الأرز.

وأما ثالث تلك القواسم فيتمثل في الوصاية الإيرانية المطلقة على أبرز القوى الحزبية والمسلحة في البلدين، والتي تأتمر بأوامر نظام الملالي، ولا تستطيع الخروج عن طاعته قيد أنملة.

تلك الحالة من التشابه جعلت المراقبين يتوقفون عند التزامن العجيب لاندلاع التظاهرات الغاضبة في العراق ولبنان، اللذين يشكلان طرفي الهلال الخصيب الذي بات يعرف بعد عام 2003 بالهلال الشيعي، استنادًا لدخوله تحت الامبريالية الإيرانية، وارتفاع وتيرة التشيع في تلك المنطقة.

كما أن التعجب يمتد إلى طبيعة المطالب التي خرج ينادي بها الغاضبون في شوارع المدن العراقية واللبنانية، والمتمثلة في إسقاط الطبقة السياسية الفاسدة، وتغيير هيكلية النظام القائم على محاصصة تفرز ذات الوجوه، وتعيد تدويرها عبر انتخابات شكلية وغير جوهرية.

ظل الاستفهام المتعلق بأسباب ثورة اللبنانيين والعراقيين هو الأبرز، وانشغل به الكتاب والمحللون السياسيون داخل البلدين وخارجهما، وكما يقال فقد سال في الإجابة عنه حبر كثير؛ في حين أن السؤال الأهم في نظري يتمثل في التالي: ما مدى قدرة الشارعين العراقي واللبناني على إسقاط الطائفية باعتبارها أحد أبرز مبررات الاحتلال الإيراني؟.

الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى إيراد بعض الفوارق بين المشهدين في البلدين!!، وهذا لا يعد تناقضًا بين ما تم تقريره في بداية المقال بشأن وجود قواسم مشتركة بين البلدين، وتحديًا بشأن الوصاية الإيرانية، ففي الجزء الأول كان بصيغة عموم الحال، فيما نحن هنا معنيون بالفوارق الدقيقة !.

في العراق تقع الأكثرية السياسية والطائفية تحت النفوذ الإيراني، فيما العكس تمامًا في الحالة اللبنانية، لكن ما يجعل لنظام الملالي نفوذًا في لبنان، هو أن ذراعه حزب الله هو الأقوى عدة وعتادًا من المكونات السياسية الأخرى، بالإضافة إلى قداسة زائفة حظي الحزب بها في المخيال الجمعي للبنانيين، مفادها أن ذلك الحزب هو سيد المقاومة العربية في وجه العدو الإسرائيلي، فيما أن الحقيقة التي تقررت مع مرور الوقت, وأقرها الحزب ذاته، أنه جزء لا يتجزأ من الجمهورية الإيرانية.

إن أزمة العراق ولبنان ومأساتهما الحقيقية, تتجسد في الغياب التام للمواطنة عن الحياة السياسية على مستوى المفهوم والممارسة, وهي حالة متعمدة, باعتبارها أهم عوامل تكريس الاحتلال والوصاية الإيرانية، حيث تشكل المواطنة وحضورها في وجدان سكان الهلال الشيعي خطرًا كبيرًا على النظم الإيراني الذي يتغذى وجوده على انتشار الطائفية وتجذرها في المجتمع المستهدف .

إن غياب المواطنة الحقة يخلق بيئة صالحة لانتشار الفساد، فتصبح الأحزاب تقتات على العملية السياسية، باعتبارها الطريق الأقصر للثراء والغنى، فالدولة تتحول في نظرهم إلى ملكية خاصة تباع تشترى، وتورث أيضًا، وهذا أبرز ما طبع المشهد اللبناني منذ التسعينات، والعراق على ذات الطريق سائر، بل هو أسوأ حيث تستمد أحزابه السياسية شرعية قراراتها من مباركة المرجعيات الدينية، التي نصبت نفسها أو نُصبت من قبل السياسيين وصية على الدين والدنيا في تجسيد لنظرية السيفين التي شاعت في القرون الوسطى، وهذه الوضعية خلقت إشكالا كبيرًا حتى على مستوى التوصيف العلمي للنظام السياسي المتمثل في ديمقراطية التوافق.

إذاً وبالعودة إلى السؤال المتعلق بمدى قدرة العراقيين واللبنانيين على إسقاط الطائفية؟، نتوقف عند عدد من المؤشرات السياسية, وبعض الحقائق الخاصة بمعايير التغير الاجتماعي.

على الصعيد السياسي, بدا من الواضح أن الأطراف السياسية المحسوبة على إيران والموالية لها ترفض تمامًا الاستماع إلى الشارع, فضلاً عن الاستجابة لمطالبه, وقد تجلى هذا في حديث تلك الأطراف عن نظرية المؤامرة الكونية التي تستهدفهم.

وضمن إطار طبيعة التباين في الحالتين العراقية واللبنانية, فإن تعاطي الحكومة العراقية جاء مختلفًا لما هو عليه الحال في لبنان, حيث منعت طهران استقالة رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي, أو أي حل سياسي يمكن أن يشكل تنازلا للشارع, وأرسلت جنرال المليشيات الأشهر (قاسم سليماني) ليشرف بنفسه على عملية فض المظاهرات بالقبضة الحديدة, وهذا ما يفسر سقوط عشرات القتلى في صفوف العراقيين.

أما في لبنان, فهناك أطراف دولية تنافس إيران في مشهده السياسي, ولهذا فإن أي تنازل يشكل انكماشا لنفوذ طهران, وهذا ما لا يرضاه حزب الله الذي يجد نفسه الآن في مواجهة الجمهور الغاضب, كما أن الحزب لن يقدم على انتحار سياسي عبر تشكيل حكومة من لون واحد يقودها هو.

تلك المقارنة بين المشهدين واللبناني والعراقي, تعكس مدى حرص إيران على إسكات وإجهاض محاولات إحياء المواطنة التي تُشكل المظاهرات أبرز تجلياتها.

وفي حال استمرار الغضب الشعبي فإن ذلك يعد مؤشر مهم على مسار نضج الدولتين وانتقالهما إلى طور المواطنة بعد أن جربتا المحاصصة التي جاءت كنتيجة طبيعية لنهاية حرب أهلية, وهذا الانتقال سيدفع صوبه الوضع الاقتصادي المتردي في البلدين, فمن المعروف والمسلم به أن البؤس والفقر والتهميش, الوقود الحقيقي للثورات.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس وجهة نظر الموقع


تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى