رأي

ما موقعنا من سرد قصتنا؟

ما موقعنا من سرد قصتنا؟

منير عتيبة

تشغلنى الشخصيات غير المنظورة فى الحكايات الكبرى، هذه الشخصيات الوظيفية؛ التى تؤدى وظيفة محددة، المسطحة؛ إذ لا يحتاج الكاتب أو السارد لأن يقدم منها غير جانب واحد مرتبط بالوظيفة التى تؤديها فى السرد، ضرورية؛ إذ إنها لا غنى عنها فى السرد مثلها مثل أبطال الحكاية أنفسهم، لكننا لا نعرف عنها شيئا، ما تاريخها؟ ما هى أفكارها ومشاعرها عندما تمر أمامها وبها الأحداث التى يتم سردها؟ هل هى راضية عن الوظيفة التى تقوم بها؟ لو أتيح لها أن تنتقل من هامش السرد إلى متنه ما الذى يمكن أن تقوله أو تفعله أو تستطيع أن تغيره فى مجرى الحكاية؟ مثال على هذه الشخصيات (السياف/ مسرور) فى ألف ليلة وليلة، شغلنى مسرور كثيرا، حتى أنني كتبت قصة قصيرة باسمه، جعلته يتحدث، يتذكر، يحكى، يعانى، فاتضح لى أنه ليس مجرد وظيفة، هو إنسان من لحم ودم، له تاريخ، وأفكار، ومشاعر، بل ربما يكون أكثر عمقا من شخصية رئيسة مثل شهريار نفسه.

تشغلنى أيضا شخصيات السرد الأكثر خفاءً، الشخصيات التى نعرف فى خلفيتنا القراءية أنها موجودة بالفعل، ولا يمكن أن تكون غير موجودة، أحيانا يصرح السارد بوجودها، مثل أصدقاء السندباد الذين يجلسون إليه عندما يعود من رحلاته، يستمعون إلى مغامراته، يندهشون، ينبهرون، لولا وجودهم لما حكى السندباد حكايات رحلاته السبع، لكن بما يشعر هؤلاء؟ هل يحسدون السندباد أم يغبطونه؟ هل يتمنون لو كانوا مكانه عندما يرون الثروة التى يحصل عليها بعد كل مغامرة أم يشكرون الله أنهم ليسوا مكانه وإلا تعرضوا للموت عشرات المرات؟ بل هل يصدقونه أصلا أم يسلون أوقات فراغهم بالاستماع إليه لا أكثر بينما هم يسخرون منه فى قرارة أنفسهم، ويسخرون من خياله الواسع الذى يخترع جزرا وكائنات يستحيل أن تكون موجودة، خصوصا أنه الوحيد الذى ينجو ولا يوجد من يصدق على كلامه أو يكذبه!

لكن فى السرد شخصيات موجودة بالضرورة، ووجودها لا يمكن الاستغناء عنه، لكنها قد لا تخطر ببال القارئ أصلا، مثل الشخصيات الثانوية فى قصة موسى والعبد الصالح (الخضر) فى سورة الكهف، كل ما يشغلنا هو رحلة سيدنا موسى وفتاه حتى قابل موسى الخضر، ثم رحلة موسى مع الخضر، المواقف الثلاثة التى يقف عقل موسى عاجزا أمام غرائبيتها مما يدفعه لأسئلة اتفق مع الخضر أن لا يسألها، هذه المواقف والمغزى منها، ووجهة نظر كل من موسى والخضر فيها، ودلالاتها الأساسية على الحكمة الربانية المخفية فى الأعمال الإنسانية، كل ذلك وغيره من الدلالات والمعانى يشغلنا، لكننا غالبا لا نفكر فى مشاعر أصحاب السفينة التى خرقها لهم الخضر، ماذا فعلوا؟ بماذا شعروا؟ والأب والأم الذين قتل الخضر ابنهما الطفل البرئ كيف استقبلا هذا الفعل؟ هل صمتا وهما لا يعرفان الحكمة منه، وربما لا يعرفان من هو موسى أو الخضر أصلا؟ هل بكيا عجزا وحزنا؟ هل حاولا الانتقام من الخضر ومهاجمته؟ وكيف فكر الأولاد عندما عثروا على الكنز بعد سنوات كثيرة فى الرجل الذى بنى السور المتهدم بلا مبرر واضح ليأتوا هم ويعثروا تحته على الكنز؟ أم هم انشغلوا بكنزهم ولم يتذكروا هذا الرجل أصلا؟ وكيف تعاملوا مع الكنز، هل اقتسموه بالعدل أم تصارعوا عليه؟ وكيف غير حياتهم؟ هل كان نعمة أم نقمة؟

هذا المشروع يشغلنى، وربما تكون قصة (مسرور) التى أشرت إليها سابقا قصة أولى فى مشروع ممتد، لكن السؤال الكبير الذى يحيط بكل هذه الأسئلة، ولا أستطيع أن أمسك خيوطا واضحة للإجابة عليه: لو أن ساردا عليما خارج عالمنا أراد أن يكتب قصتنا؛ أين سيكون مكاننا من القصة؟ فى متن السرد أم هامشه؟ هل سنكون شخصيات رئيسة أم وظيفية أم خفية أم شخصيات لا يتذكرها أحد أصلا برغم إنها ضرورية جدا، بل هل سنكون حتى شخصيات ضرورية فى هذا السرد أم….


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس وجهة نظر الموقع


أين تظن نفسك أنت؟!

تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى