رأي

رمضان الذي كان..

بقلم: د. زاهر سحلول

هناك يغيب في هدوء الليل صوت رتيب، قريب بعيد من زمان البراءة وسحر الماضي، عندما كانت البساطة هي الحياة، والجيران هم الأهل والأصحاب.

صوت أنيس كلحن الصباح المختلط بزقزقة العصافير، وصياح الديك الذي استيقظ مبكرًا ليملأ ظلام الليل بصوته السحيق، وأسمع تذكير المؤذن من مكان سحري بعيد كبعد الأفق.

صوت حنون يدفع اللحاف الدافئ، ويذكر النائمين بأن الوقت حان للسحور. “قوموا تسحروا” يقول الصوت وكأنه حلم بعيد من بلاد الشرق، وتحمل الريح من تحت النافذة أريج الياسمين الذي استيقظ على صوت الطبل وغناء المسحراتي.

كبست الزر لأكبت صوت الساعة المزعج. الكهرباء مقطوعة ولا زال الظلام مخيمًا في الخارج، ولازال الجو باردًا. ولكن لا بد أن أستيقظ حتى أحضر سندويشة الزيت والزعتر وجبنة البقرة الضاحكة، مع كأس الشاي تحضيرًا ليوم طويل.

ولسبب ما تذكرت مقولة المذيع في قناة التلفزيون الرسمي الوحيدة والملونة بالأسود والأبيض: “كله يهون فإسرائيل ترتجف خوفًا منا، ولا بد مِن التضحية حتى تتحرر فلسطين والجولان وعربستان وإريتريا واسكندرون وكيليكية وطنب الكبرى والصغرى، وتتوحد الأمة العربية من الشام لبغداد، ومن نجد إلى اليمن إلى مصر فـ”تطوان”.

ملأت تنكة المازوت وسكبتها في الصوبية في غرفة العائلة، وفتحت باب المدفأة المصدّي والبارد، وأشعلت عود الثقاب بعد أن أخرجته من العلبة الصفراء لكبريت المدفع، وبعد عدة محاولات اشتعل العود.

وشممت رائحة البارود المختلط برائحة الكستنة المحمرة والخبز اليابس من سهرة البارحة، ورميته في ظلام الصوبية قبل أن يحرق أصابعي فتشتعل النار بلون أصفر و أزرق. وأنتظرها لتحمى وتشع الدفء في الغرفة وأفرك يداي المتجمدتين وأضعهما فوق ظهر الصوبية.

يا محلا أيام الخيرات على قول جدي، وقت كان كيلو اللحمة بخمس فرنكات، والفواكه والخضرة متل الكذب.

وتتسلل رائحة الحليب المغلي وخبز رمضان المليء بالتمر الحلو جدًا كحلاوة حمص القديمة وزابوق الأربعين وسوق الهال وبستان الديوان وكنيسة أم الزنار، والجامع الكبير والسوق المسقوف قرب حمام الباشا في شارع أبو الهول.

ووضعت  أنفي على الرغيف العابق باليانسون والحبة السوداء واللامع كوجه الطفل.

بعد السحور حاولت العودة إلى النوم متذكرًا حكايات جدي حول الأبطال والرجال والقديسين الذين انتصروا على اليأس، وصوت جدتي الدافئ كدفء الربيع وهي تسرد قصص الناس الذين كانوا أناسًا قبل زمان الظلام وأساطير الكرامة والنخوة.

حكايا تنتهي بحكمة أزلية بسيطة كبساطةً أهل حمص، وبساطة نهر العاصي الجاري دومًا عكس التيار “تيتي لا تنسى أصلك وأهلك وبلدك وقت بتكبر وبتطير إلى بلاد السراب البعيدة كبعد البح”.

وأسمع من بعيد صوت الرعد وصوت فيروز تغني “بكرة بتشتي الدني عالقصص المجرحة وبيبقى اسمك يا حبيبي واسمي بينمحى”، وصوت جارنا أبو زكوان ينزل على الدرج ويقول بصوته الخشن الذي يوقظ الموتى “يا الله أصبحنا وأصبح الملك لله”.

وأتلمس لون السماء المليء بالنجوم اللامعة وهلال صغير يكاد ضوؤه يختفي من نافذة الأمل.

رمضان كريم وكل عام وأنتم بخير


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس وجهة نظر الموقع


تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى