رأي

حنين ممنوع وفجر مفزع

بقلم: رياض الزواحي

وحدَهُ السلام مازال أبعد الخيارات التي يرنو إليها اليمنيون لكسر وتبديل الواقع الذي صنعته الحرب في حياتهم، فعلى مدى خمس سنوات مضت عاشوا ومازالوا يعيشون مآسي ودمار وحصار، نجحت جميعها في صناعه أسوأ كارثة إنسانيه على مستوى العالم، حسب تأكيدات الأمم المتحدة

وخلّفَت ومازالت تُخلّف قصصًا إنسانيه قلما تنقل تفاصيلها كاميرات التصوير أو كتابات الإعلاميين

في مديرية عبس وكشر التابعة لمحافظه حجه، شمال غرب العاصمة، قد لا يصدق حكاياتها المؤلمة إلا من يراها  بأم عينيه. فالجحيم يتسيد الواقع، وأطفال كانوا يلعبون ويمرحون في الأزقة حولتهم مرارة المعاناة والنزوح إلى هياكل عظمية تتنفس، وعيون شاخصة تنتظر قطرة ماء، أو كسره خبز في يد زائر، تعيد إليها أمل ضئيل في الحياة.

خيام نصبت فوق أراضي قاحلة وموحشة، يلوك قاطنيها البرد والجوع والمرض بين أسنانه دون رحمة، فحولتهم الحياة الجديدة إلى أشباح آدميه تسكنها أرواح منهكة، تحلم بالزاد وقطرة ماء، وتتربص لتفوز حتى ببعض الدواء لينقذهم من براثين المرض الفتاك كالكوليرا، الذي بات يحاصرهم ويفتك بأجسادهم النحيلة، وأحلامهم التي بددها سواد الواقع والطائرات التي تطارد أنفاسهم الأخيرة حتى في جحيم النزوح والتشرد القاسي.

“ريحانة” رفيقة الـ11 ربيعًا إلى اليوم لم تستوعب ما يجري لها، ولماذا تحولت أحلامها الطفولية إلى كوابيس بشعة لا تفارقها.

حتى جسدها النحيل المنهك، لا تعرف من أعطاها هذا الجسد البشع الذي أفزعها التصاقه برأسها، لا تعرف هل تهرب من جسدها، أم أن جسدها هرب منها إشفاقا عليها وعلى طفولتها، التي فرت هي الأخرى منها كما تفر هي كل يوم من الكلاب الضالة والوحوش الضارية، وحتى السحالي المخيفة في مخيم النزوح، وأيضًا الحقن التي ملأت جسدها الصغير بالثقوب، وملئت قلبها بالخوف والفزع الدائم.

ليأتي المساء الموحش هو الآخر لينتزع مخاوف الصباح ويستبدلها بمخالبه السوداء بمخاوف جديدة، وتغرس أصوات الذئاب فيها فزعًا آخر أكثر قساوة من الصباح الذي تحلم به رغم قساوته.

لاسيما وأن الكوابيس مازالت تلتصق بليلها وجسدها وطفولتها، وترسم في مخيلتها المشتتة صوره والدها وهو في بركه من الدماء، حتى صراخ والدتها كان حدثًا عابرًا، لكنه غير قابل للنسيان.

والطائرات وأصوات القصف هي الأخرى تتبع أنفاسها، بينما هي تحاول إخفاء أنفاسها بالهمس حتى لا تسمعها طائرات الموت القادم من السماء التي لم تعد زرقاء، وتخاف أن تصرخ فتعلم الطائرات أنها موجودة، فتتنفس بهمس يرافق ليلها الموحش.

بينما تقضي نهارها المخيف وهي تلقي بجسدها وروحها المتعبة على صدر أمها “تقيه”، التي لم تعد تعرف منها سوى صوتها الشاحب الحنون، ويداها اللتين تمسحان على رأسها، وبضع أغاني ليليه خافته تساعدها على النوم بين ظلام حالك، وشمعه هزيلة منهكة تقاوم الظلام المخيف والبرد القارس الذي يخيم في جنبات الخيمة الموحشة.

أما  الفجر فيأتي وهو يحمل معه بصيص من النور، لكنه غريب، ليس كالفجر الذي كانت تعرفه ريحانة في بيتها في صعدة، هذا الفجر الجديد لا يحمل معه زقزقة العصافير، ولا أصوات الأذان، ولا صوت صنبور الماء الذي كان يفتحه والدها ليتوضأ ويؤدي الصلاة.

لم تعد ترى من هذا الفجر سوى مناسبة سريعة لتدشين الصباح والنهار، لخوض مضمار المخاوف الجديدة التي تحاصر قلبها الصغير.

لكن هذا الفجر الغريب قد يسمح لريحانه بتذكر معلمتها القاسية في المدرسة، ورفيقاتها التي كانت تلعب وتتشاجر معهن أحيانًا على الفطيرة وقنينة العصير خاصتها.

فتهمس برجاء في أذنيه “خلاص رد لي الأبله وداد وسماح وفاطمة وأمه الملك، كلهن حقي أصبحت أحبهن من كل قلبي، ووعد مني لن أنام في الفصل حتى لا تغضب مني الأبله وداد، وسأعطي البنات كل فطائري والطبشور، جربني مرة واحدة فقط”.

“حتى الجعاله ما عاد اشتيها والحليب باحبه، والسكر لن أسرقه من المطبخ يا ضوء،  ملابس العيد ماشتيها، والعروسة حقي فيروز باعطيها لو أرجع بيتنا، واديها لبسام ابن خالتي حلوى العيد والكعك واللوز وعد ماريدها”.

“صدقني لن أطرق أبواب الجيران في صباح العيد وأطلب منهم عسب العيد، ما عاد اشتي شي بس ردلي بيتنا والعصافير حقنا، والأبله وداد، وخلي أبي يرجع من السماء من عند الله، وعد مني سأعني لأمي كل الأغاني لو ما تقول بس”

ومع شروق الشمس تنسى ريحانة كل مناجاتها وأحلامها/ وتنشغل بالمجهول والخوف القادم من جديد، وتطل بعينيها الصغيرتين، وتتأمل الخيام المجاورة لخيمتها الصغيرة، فتعتريها رغبة جامحة للصراخ لتوقظ الأطفال، الذين مات بعضهم بالكوليرا التي اجتاحت المخيم.

لكنها لا تجرؤ على ذلك خوفًا من أن تسمع صراخها طائرات الموت القادم من السماء، فتناثر بقايا جسدها النحيل وروحها المتعبة التي لم تعد تعرف سوى الهمس، وبقايا ذكريات للعب من أرشيف الذاكرة المنهكة، ومعارك تخوضها يوميًا للنجاة من الموت، والفوز بكسره خبز وقطره ماء آسن.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس وجهة نظر الموقع


تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى