رأي

العربية تستغيث.. إلى متى تستمر أزمة اللاإنتماء والهروب نحو الآخر؟

بقلم: معن الحسيني

وقعت عيناي منذ بضعة أيام على كِليب (أي مقطع فيديو وليس تصغير لكلمة كلب) تتحفنا صاحبته فيه بمزاعم حول أن “اللهجة اللبنانية” تختلف اختلافًا كبيرًا عن اللغة العربية، وذلك من حيث القواعد والشكل وطريقة النطق. وساقت صاحبة الكليب أدلة وأمثلة على صحة مزاعمها منها أن اللبناني يقول: “قلتله لفادي”، بينما باللغة العربية نقول: “قلت لفادي”، مشيرة إلى أن هذا فرق واضح بيّن!

وبغض النظر عن وهن الطرح، والكم الكبير من الجهل في مزاعم من تبنته، ورغم عرضه على قناة لبنانية يُفترض أنها محسوبة على القنوات الرصينة، إلا أن ما يلفت الانتباه هو المنزلة التي وصل إليها كل ما يوصف بالعربي في زمننا هذا، فكلما اعتقدنا أننا بلغنا قاعًا صفصفًا في هذا الشأن، نعود لنكتشف أن هناك دركًا أسفل في انتظارنا أكثر انحطاطًا وأشد قتامة.

باتت العربية والعروبة تهمة يتبرأ منها كل من ينتمي إليها، فاللبنانيون فينيقيون، والمصريون فراعنة، وأهل الجزيرة العربية خليجيون، وأهل المغرب العربي أفارقة أو أمازيغ، وهكذا. ومن لا يستطيع إدعاء أي من هذا يقول إنه مسلم أو مسيحي أولاً، حتى ترى بعض العرب اليوم يمني النفس بالانتماء إلى بلدان أخرى كتركيا وإيران وأوربا وأمريكا وكندا.

وهذه الدعوات ليست بجديدة على كل حال، لكن شدتها ورواجها يتناسبان طرداً مع ضعف حال الأمة، وكما يقول ابن خلدون في مقدمته: “عندما تنهار الدولة، يلوذ الناس بالطوائف، ويصبح الانتماء إلى القبيلة أشد التصاقًا”.

ومن الجلي لكل متأمل أن عصر انحطاط العرب قد عاد مرة أخرى، فلا قادة للرأي، ولا مفكرون لهم وزنهم على المستوى العربي أو العالمي، ولا إستراتيجيون لديهم رؤية واضحة لما يجب أن يكون عليه مستقبلهم، وترى البلاد العربية بكل مقدراتها وخيراتها وخياراتها مرهونة إما لهذه الدولة أو تلك، حيث تسود المنطقة العربية حالة من الاستقطاب تقودها الدول الإقليمية أو العظمى.

لا أنوي هنا الحديث عن السياسة، رغم أنها جزء من هذا الانحطاط، ولكنني أشير أكثر إلى أزمة باتت تعصف بالأمة بعد صحوة بدأت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. ومما لا شك فيه أن ثورات الربيع العربي قد فشلت، بل وعادت بالانتكاسة على كل من آمن بها، وذلك بسبب غياب القادة المؤثرين والملهمين، ممن يمتلكون الفكر والمنهج والإستراتيجية اللازمة للنهوض بالمد الشعبي الهائل الذي طالب بالتغيير والإصلاح.

وإن كان لنا أن نطّلع على دراسات تبين لنا من يؤثر في العرب اليوم، لوجدنا الفنان، و”اليوتيوبر”، والكوميدي، والإعلامي الشعبوي، ورجل الدين العصري “الكول”، وغيرهم ممن لا يملكون رسالة راسخة تفيد الأمة، بل يسعون إلى جمع اللايكات والتعليقات، والغريب أنك تجد متابعيهم بالملايين.

وقد أصابتني الصدمة مرة عندما عرفت أن عدد مشاهدي أحد هؤلاء المشاهير قد تخطى الخمسة ملايين متابع، بسبب إنجاز لم يسبقه إليه أحد إلا “ريتشارد قلب الأسد”، وهو أكل خروف كامل في وجبة واحدة.

وقد يقول قائل إن هكذا مجتمع لابد أن يفرز مثل هؤلاء القادة، وهذا صحيح من حيث المبدأ، لكن لو كان الحال كذلك لما رأينا قادة رأي مُجددِين يخرجون من رحم التخلف والانحطاط، مثل غاندي ومانديلا ومارتن لوثر كينغ وجان بول سارتر ومهاتير محمد، وغيرهم ممن وظفوا فكرهم وعقيدتهم لخدمة قضايا أوطانهم، فلا هم اكتفوا بالتنظير من وراء الأبراج والمكاتب والصوامع، ولا هم اتحدوا مع الشارع ليحققوا مكاسب جماهيرية فقط سيرًا على مبداً “الجمهور عيز كده”.

نحتاج اليوم لمن لديه الفكر والإيمان بالقدرة على إحياء هذه الأمة النائمة، ومن يتمتع بالنزعة الجماهيرية الصادقة للنصح والتوجيه، ولا يسعى لحصد الإعجاب وتجييش المُريدين والأتباع.

لا أدعي هنا وجود وصفة سحرية لأزمة الهروب هذه، ولكنني على يقين بأن دوام الحال من المُحال، وأقول كما قال الراحل سعد الله ونوس: “إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ”.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس وجهة نظر الموقع


تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى