رأي

الجرأة على القراءة

منير عتيبة

الذين لا يقرأون، أو لا يحبون القراءة، لا يعلمون أن القراءة عملية صعبة تحتاج قدرة نفسية كبيرة، بل وتحتاج جرأة عقلية وروحية أيضا، وليست مجرد عملية تسلية أو إزجاء وقت فراغ بسيطة.

أذكر أننى كنت فى الصف السادس الابتدائى عندما اقتنيت أول كتاب فى حياتى، كنت أشترى “لب أسمر” من دكان عم أسعد البقال، قطع غلاف كتاب ليصنع منه قرطاسا، قرأت عنوان الكتاب على غلافه الداخلى (عبقرية عمر.. عباس محمود العقاد)، قلت لعم أسعد: بكم تبيع هذا الكتاب؟. سألنى: ماذا ستفعل به؟. قلت: سأقرؤه. قال: إن كنت ستقرؤه حقا فهو لك بدون فلوس!

قرأت الكتاب كله فى أيام، واستمتعت به، وأصبح عباس محمود العقاد كاتبى المفضل فى ذلك الوقت، ولم أكن أعرف أن هذا الكتاب الذى كان مقررا على طلبة الثانوية العامة يعذبهم بصعوبته، ولم أكن أعرف أن العقاد هو أشهر كاتب مصرى حصل على شائعة إن كتاباته صعبة وعسيرة الفهم!

فى عامى الجامعى الأول ملأت حقيبة رياضية ماركة (أسكوت) بالكتب التى كنت قد اقتنيتها خلال المرحلة الثانوية من مصروفى، وهى الكتب التى قررت أننى لن أعيد قراءتها مرة ثانية، وأننى غالبا لن أحتاج للعودة إليها بأى شكل من الأشكال، بعت كل هذه الكتب فى شارع النبى دانيال أشهر شوارع الإسكندرية تخصصا فى بيع الكتب المستعملة، وحصلت على مبلغ عشرة جنيهات، أضفت إليها جنيهين من جيبى واشتريت كتابا واحدا هو “قصة الفلسفة” للمؤرخ “ول ديورانت”.. وفى طريقى إلى بيتى قابلت صديقا كان يدرس الحقوق وقتها، شاهد معى الكتاب فهاجمنى بشدة لأننى أنفق نقودى فى كتاب عن الفلسفة التى يمكن أن تؤدى بى إلى الكفر، جادلته وجادلنى، وظل كل منا على موقفه، قرأت الكتاب بيقظة أكبر من المعتاد حتى لا يؤدى بى الكتاب إلى الكفر(!)، وحتى هذه الفترة من عمرى لم أكن قد استغرقت أو استمتعت بكتاب أو اشتغل عقلى بسبب كتاب مثل كتاب قصة الفلسفة الذى أخذت أعيره لأصدقائى وأرشحه لهم، فهو يقدم بأسلوب أدبى رائق أهم الفلاسفة فى التاريخ وأفكارهم الأساسية.

بعد تخرجى فى جامعة الإسكندرية بسنوات قليلة، وفى أواخر التسعينيات من القرن الماضى افتتحت أنا وصديقى الإعلامى الكبير حسام عبد القادر دار نشر اسمها “الصديقان” تخصصت فى نشر الكتب الثقافية، وكنت أقرأ كل الكتب التى تنشرها الدار قبل نشرها، إلا كتابا واحدا نشرناه لصالح فرع ثقافة الإسكندرية، ولم أجرؤ على قراءته، كان الكتاب مجموعة قصصية للأديب محمد حافظ رجب، واسمه (رقصات مرحة لبغال البلدية) وكان من يشرفون على نشر الكتاب يقولون إن محمد حافظ رجب من أهم كتاب القصة العربية المجددين فى القرن العشرين، وإن يوسف إدريس ونجيب محفوظ وإبراهيم أصلان وغيرهم تأثروا بكتاباته، لكنه لم ينتشر جماهيريا لأن كتاباته صعبة جدا، ربما هو نفسه لا يفهم بعضها! فخفت أن أقرأ المجموعة القصصية ولا أفهمها فأتهم نفسى بالغباء. لكننى بعد فترة تجرأت وقرأت المجموعة، واستوعبتها ببساطة، وأعجبتنى جدا، وبعد سنوات أصبحت صديقا مقربا للمبدع الكبير محمد حافظ رجب الذى يخسر كثيرا من لم يقرأ له.

فهل لو كنت أعلم أن عباس محمود العقاد صاحب ماركة مسجلة (صعب جدا) كنت سأقرأ له عبقرية عمر وأنا فى الصف السادس الابتدائى، ثم أقرأ معظم كتبه بعد ذلك بل وأكتب عن بعضها؟ ربما يكون الجهل هنا (الجهل بالشائعة التى آذت العقاد) نعمة كبيرة تعطى القارئ جرأة على القراءة من دون أن يعرف كم هو جرئ!

وهل لو كنت أخشى أن أكفر بالله وبدينى كنت سأقرأ قصة الفلسفة؟ عبارة واحدة هى التى جعلتنى جريئا فى ذلك اليوم، قلت لصديقى الحقوقى: إذا كنتُ قوى الإيمان فلا شئ سيجعلنى أكفر، وإذا كان إيماني ضعيفا لدرجة أن قراءة كتاب يمكن أن تهزه أو تنفيه فلا خير فى هذا الإيمان، وإذا كان إيمانى لا يثبت لحديث القلب والعقل معا فلا خير فيه أيضاً!.. فهل الثقة الزائدة بالنفس وقدراتها تعطى للقارئ جرأة يمكن ألا يملكها غيره؟

ولو لم أفكر هكذا: محمد حافظ رجب مجدد، تأثر به الكبار، فسأخسر كمبدع إن لم أقرؤه؟ وكيف تنشر كتابا لم تقرؤه عيب عليك؟ وكيف لا تقرأ لواحد من أهم كتاب العرب وهو فى الوقت ذاته ابن مدينتك الإسكندرية عيب عليك؟ وكيف لا تثق فى نفسك إلى درجة أن تخشى قراءة مجموعة من القصص بعد كل ما قرأت وكتبت؟.. فهل تأنيب الذات، والنعرة السكندرية (!) والرغبة فى المعرفة هى ما أعطت القارئ جرأة ليقرأ محمد حافظ رجب؟

إننا نخسر كثيرا بالخوف، وبتصديق شائعات لم نجرب صحتها بأنفسنا، وبعدم الثقة بقدراتنا العقلية والنفسية، نخسر ثقتنا بذواتنا، وبالتالى نخسر القدرة على اقتحام عالم من المعرفة والمتعة العقلية والروحية والوجدانية لن تدعونا إلى الدخول إليه إلا جرأتنا على القراءة.. فلنتقدم!


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس وجهة نظر الموقع


تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى