رأي

أميركا قِبلة المهاجرين وحلم اللاجئين (4)

شاهد عيان على ثورة الإنترنت في بلاد العم سام

قمت خلال زيارتي الأولى للولايات المتحدة في 2009 بعدة زيارات هامة لعدد من الصحف والإذاعات المحلية الأميركية، أذكر منها زيارة جريدة عريقة وهامة جدًّا، وهي جريدة “كريستيان ساينس مونيتور” وهي جريدة عمرها 101 سنة، وحازت حتى وقت الزيارة على 7 جوائز “بوليتزر” العالمية، وقد تم تأسيسها من قبل الكنيسة إلا أنها لم تروج لأي محتوى ديني، وهو ما أكده “مارشال انجويرسون” مدير تحرير الجريدة الذي فاجأنا عندما أخبرنا بقرار الجريدة الجريء أن تتحول من يومية إلى أسبوعية مكتفية بالتجديد اليومي للموقع الإلكتروني، وذلك بسبب الأزمة المالية مما أثار لدينا المشكلة الدائرة حول الصراع الدائم بين الصحافة المطبوعة والصحافة الإلكترونية وهل ستقضي  االثانية على الأولى؟! خاصة فى ظل أزمات مالية طاحنة تطيح باقتصاديات أكبر الدول على مستوى العالم.

وأضاف مارشال أن هذا التغيير أثر على عدد المحررين حيث تم الاستغناء عن 17% من المحررين، لأن الجريدة تخسر وتحتاج أن تعوض هذه الخسارة في خلال سنة على الأكثر، موضحًا أن كل طموحاتهم تنحصر في تطوير النسخة الإلكترونية، وزيادة معدل التصفح لجذب المعلنين، وقد لجأوا إلى العديد من وسائل الجذب ومنها معرض للصور والتحديث المستمر للأخبار، كما يتم حاليًّا تطوير نظام “إدارة المحتوى” وسوف يلجؤون أيضًا إلى متخصصين في “محركات البحث” على الإنترنت لزيادة الترويج للجريدة، وقد وصل تصفح الموقع إلى أكثر من 7 مليون صفحة يتم مشاهدتها شهريًّا من زائري الموقع (بالطبع هذه إحصائيات عام 2009).

أما الزيارة الثانية، فكانت لإذاعة “WBUR”، وهي إذاعة عامة ببوسطن، ومفهوم الإذاعة العامة يختلف تمامًا عن مفهومنا، فالإذاعة العامة يقصد بها أنها عامة للشعب، ولا تتبع الحكومة، وقد تلجأ إلى أخذ بعض التمويل من الحكومة ولكن دون أن تكون ملكها.

وهناك قابلنا كل من “سام فليمنج” مدير الأخبار، و”روبن ليبوك” مشرف الموقع الإلكتروني للإذاعة، ومن جديد جاء التأكيد على الاهتمام بطبيعة المواطنين المحيطين بهم، حيث أكد “سام فلمينج” أن إذاعتهم مميزة؛ لأنهم يعيشون فى مجتمع يحتوي على العديد من الجامعات ومعظم مستمعينا على قدر عال من التعليم، مما سهل علينا المهمة فى بث الأخبار والبرامج المختلفة، بالإضافة إلى بث أخبار قومية ودولية ليتعرف المستمع على ما يدور حوله.

وأضاف فلمينج “أن معظم الإذاعات التجارية فى بوسطن توقفت عن بث الأخبار بشكل أساسي مما جذب المستمعين لنا، وبالتالي فمن ضمن الـ50 إذاعة فى بوسطن تعتبر إذاعتنا من أهم 3 إذاعات، وهو إنجاز لنا”.

وأوضح فليمنج أن الإذاعة ما زالت تجذب الكثير من الناس رغم أن المراهقين والأطفال أصبحوا لا يستمعون لها، ويلجأون للكمبيوتر، ومن هنا أشبعنا رغبتهم من خلال موقع الإذاعة على الإنترنت.

وجاءت الزيارة الثالثة التي أعتبرها هامة جدًّا لمركز “مؤسسة نيمان” الملحق بجامعة هارفارد الشهيرة، حيث تعرفنا على طبيعة هذه المؤسسة الهامة التي تعتبر المركز الرئيسي الذي يتم فيه تدريب طلبة جامعة هارفارد على الصحافة حيث لا يوجد بهارفارد قسم خاص لرعاية طلبة الصحافة، وبالتالي تقوم هذه المؤسسة بهذا الدور للجامعة بالإضافة إلى برامجها الأخرى.

رافقنا في الجولة بهذه المؤسسة “جوشوا بينتون” مدير معمل الصحافة بالمؤسسة الذي أكد أن أهم برنامج ترعاه المؤسسة هو منحة لدراسة الصحافة لمدة عام يتم فيها استضافة 10 صحفيين من كل دول العالم نصفهم من الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة الصحافة مجانًا على أن تتكفل المنحة بكل المصاريف والإقامة للصحفي وأسرته، وهي منحة تتم كل عام، وقد لفت جوشوا نظرنا إلى وجود صور معلقة على الحوائط لبعض خريجي هذه المنحة وصورهم مع أسرهم.

ثم قام “جوشوا بينتون” بتقديم عرض شيق عن أهمية الإنترنت في وسائل الإعلام وكيف استطاعت مواقع مثل الفيس بوك والمدونات وغيرها من المواقع جذب ملايين من المستخدمين وأصبح وجودهم فرضًا علينا، ولابد من استخدامهم للترويج لمواقعنا وجرائدنا، موضحًا أن هناك مواقع يمكن من خلالها ترويج الإعلانات للصحف الإلكترونية ولكنها تعتمد على عدد الزوار، وشرح جوشوا وسائل متعددة لجذب القراء من خلال طريقة عرض المحتوى الخبري.

أزمة بوسطن جلوب المالية

قبل بدء الزيارة الرابعة، تعمد “ماكس جروب” البروفسيور الأمريكي الذي كان مرافقًا لنا فى الرحلة أن يشرح لنا وضع الجريدة التي سنقوم بزيارتها، وهي جريدة “بوسطن جلوب” حيث تعاني هذه الجريدة من وضعها المالي المتدهور، وتجري حاليًّا محاولة لبيعها بالكامل، وهو ما ذكرنا بوضع الصحافة المصرية من محاولة بيع بعض الصحف بسبب تعرضها للخسارة، فلسنا وحدنا في هذا الهم!.

إلا أن البوسطن جلوب وضعها مختلف، فقد كانت مطمعًا لجريدة “النيويورك تايمز” فقامت بشرائها بعد عدة دراسات أكدت أنها عملية مربحة ويمكن أن تدر مالاً كثيرًا على النيويورك تايمز، إلا أن التوقعات خابت وأصبحت خسائرهم تقدر بمليون دولار في الأسبوع الواحد، مما أدى إلى عزم “النيويورك تايمز” على بيع البوسطن جلوب، ثم توقفت عملية البيع بسبب تكتلات العمال والموظفين داخل الجريدة الذين طالبوا بحقوقهم، وأجريت مفاوضات مع هذه التكتلات لإجراء عملية البيع، والغريب أنه رغم المفاوضات إلا أن النيويورك تايمز كانت لا تجد مشتريًا وقتها.

وقد وجدنا هذه المشاكل بالفعل على وجوه العاملين عندما زرنا مقر الجريدة التى كانت توزع 350 ألف نسخة يوميًّا و500 ألف نسخة للعدد الأسبوعي، بينما يصل عدد المتصفحين لموقع الجريدة الإلكتروني إلى 8 مليون يوميًّا و200 مليون في الشهر.

ويقول “ديفيد بيريد” رئيس التحرير أن النسخة الإلكترونية رغم عدد زوارها الهائل إلا أنها لا تغطى تكلفتها وبالتالي تتعرض للخسائر، وكل الضغوط المالية اضطرتنا إلى ضغط المصاريف والاستغناء عن ألفي موظف في مكاتبنا الخارجية في أواخر 2006 و2007، كما يقوم كل فرد من العاملين بأكثر من وظيفة بسبب الضغوط المالية، فالمحرر قد يصور ويكتب ويعمل الفيديو الخاص بتقريره بنفسه.

ثورة الإنترنت مع الإذاعة أيضًا

والزيارة الخامسة كانت لمجموعة CBS RADIO، والتي تحتوي على مجموعة من الإذاعات، ومنها إذاعة WBZ News radio وقابلنا هناك “بيتر كاسي” مدير الأخبار والبرامج بالإذاعة، والذي قام بجولة معنا في أستوديوهات الإذاعة، وغرف الأخبار لنتعرف على طبيعة عمل الإذاعة، وكذلك المذيع الشهير “دان ريا”، وهو من أشهر مذيعي التلفزيون في بوسطن، ويفتخر أنه قام بمقابلات مع كل رؤساء الولايات المتحدة بدءًا من كنيدي، وأنه قام بإجراء مقابلة مع أوباما أثناء جولته الانتخابية، وقد انتقل دان بعد ذلك للإذاعة ليخوض تجربة جديدة ويقدم برنامج من برامج التوك شو بعنوان “Night Side” أو “آخر الليل” والذي يستغرق 4 ساعات يوميًّا، وحقق شهرة واسعة، ويقول دان أن ثورة الإنترنت أتاحت الآن فرصة متابعة أي مستمع للإذاعة من كل أنحاء العالم، من خلال موقع الإذاعة على الإنترنت حتى إنه كان سعيدًا عندما وجد مستمعين له من مصر يرسلون له برسائل وتعليقات، كما أكد دان على أهمية فصل الإعلان عن التحرير، وعدم الدمج نهائيًّا، وأنه يقوم بذلك في برنامجه حتى إنه حدثت مشكلة بسبب إذاعة مشكلة خاصة بإحدى الشركات التي كانت تعلن في الإذاعة، فسحبت إعلاناتها من الإذاعة، إلا أنها بعد فترة عادت وعرفت خطأها واستمرت الإعلانات بها بعد ذلك.

آراء المستمعين شرط لاستمرار ترخيص الإذاعة

وقمنا بمجموعة زيارات أيضا في مدينة “كاب كود” وهي مدينة عبارة عن جزيرة يحيطها الماء من كل ناحية تبعد عن بوسطن بحوالي ساعتين بالسيارة، وكل ما يربطها ببوسطن هو كوبري أما باقي حدودها فهي ماء فقط، وكان أول لقاء مع إذاعة “كاب كود” حيث تم مقابلة “واين هوايت” مدير البرامج بالإذاعة والذي شرح دور الإذاعة المحلي في نقل قضايا الجماهير كما أوضح أن الحصول على رخصة هو شيء سهل للغاية، بشرط تقديم برنامج خدمي للناس، ولكن لابد من تجديد الرخصة كل ثماني سنوات، ولكن هذا التجديد يتم من خلال الجمهور، وليس من خلال الحكومة، فإذا اشتكى مواطنون من سوء الإذاعة وما تقدمه يتم إلغاؤها وقد حدث من قبل، ويتم قبل موعد التجديد عمل تنويه للجمهور لمعرفة رأيه وهل يريد استمرار الإذاعة أم لا؟ وهل تؤثر في حياته أم لا؟

ومن جديد جاء أهمية معرفة طبيعة الجمهور عندما ذهبنا إلى جريدة “كاب كود تايمز” وقابلنا بول برونفوست رئيس التحرير الذي شرح أن كاب كود من أقدم مدن الولاية وتتمتع بنسبة عالية جدًّا من المواطنين المتقاعدين الذين يعيشون في سلام بعد تقاعدهم، وهم غالبًا تقليديون فى قراءتهم للصحف، وكثير منهم يحب اقتناء الحيوانات، فنقدم لهم كتابات وخدمات لها علاقة بهذا الموضوع.

أما آخر زيارة في البرنامج كله، فقد كانت مع مؤسسة “جيت هاوس” للإعلام حيث قابلنا “مارك سكالا” ناشر هذه المؤسسة، والذي تحدث قائلاً أنهم لديهم 4 مطبوعات أسبوعية، وسوف يضيف مطبوعة جديدة يومية خلال الصيف فقط تخدم السياح، وأن لديه صحفًا على مستوى 28 ولاية بأمريكا، وكل صحيفة في مدينتها، موضحًا أن شركته لها أسهم في البورصة مما يتيح لها فرصة أكبر للانتشار.

لقد أثمرت هذه الزيارات على المزيد من الخبرات المهنية والاطلاع على تجارب زملاء في المهنة من أكبر دولة في العالم يعانون مثل معانتنا، ومهددون بالخصخصة، وبغول الإنترنت فهم ليسوا بعيدون عنا ولسنا ببعيد عنهم، فالكل في الهم سواء.

حكيت كثيرًا لعاطف يوسف وجون عن زيارتي الأولى لبوسطن، وكان يستمعان باهتمام وقالت لي جون بما أنك صحفي ومهتم بهذا المجال بهذا الشكل، فلابد أن تزور متحف الصحافة في واشنطن سوف تستمتع كثيرًا، وقد كانت نصيحة ذهبية من جون لأن زيارتي لهذا المتحف كانت تختلف عن كل المتاحف التي زرتها من قبل، وهو ما سأتحدث عنه لاحقًا.

(للحديث بقية)


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس وجهة نظر الموقع


تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى