رأي

أميركا قِبلة المهاجرين وحلم اللاجئين (3)

رائحة السعادة تستقبلني في بوسطن

تكررت الزيارة لبوسطن من جديد في 2015، ورغم أني كنت متوجهًا لميتشغن وواشنطن إلا أنني فضلت تلبية دعوة صديقي الكاتب والأديب عاطف يوسف السكندري الأصل، والذي يعيش في بوسطن، ووجدتها فرصة أن أستعيد ذكرياتي في هذه المدينة الجميلة.

غضب عاطف يوسف عندما علم أن زيارتي له ثلاثة أيام فقط بما فيهم يوم السفر، وطلب مني مشكورًا أن أمد الفترة، ولكن مع الأسف كان الوقت ضيقًا، ولدي ارتباطات عمل هام جعلني لا أستطيع تلبية رغبته.

ومجرد خروجي من مطار بوسطن في زيارتي الثانية وجدت عاطف يوسف ينتظرني، وبعد السلام والأحضان أخذني فورًا إلى سيارته لنذهب إلى بيته، وقال لي أن المسافة لن تستغرق أكثر من نصف ساعة ولو الطريق مزدحم قد تصل إلى ساعة، إلا أننا وصلنا بعد ساعتين وأكثر قليلاً، فقد نسي عاطف الطريق ولم يستطع “الجي بي إس” أن يدلنا على الطريق وقد يكون لعدم خبرة عاطف به، كما أن الكلام أخذنا وظللنا نسير في شوارع بوسطن في الليل وندخل يمينًا ويسارًا، وفجأة وجدت عاطف يقول لي بتعجب: “تصدق البيت أهوه”، وقد وصلنا له صدفة، فضحكنا.

عاطف يوسف أمام منزله بهيفر هيل ببوسطن

ونحن في الطريق من المطار، مررنا بمنطقة تسمى “تشيلسي” وتبعد حوالي 7 ميل عن بوسطن، وهي مشهورة بالإجرام لكثرة عدد المجرمين أو الخارجين عن القانون بها، ويحكي لي عاطف أنه سكن بها فترة عندما جاء إلى أميركا، ويقول كنت أسمع دائمًا طلقات نار، وقامت الحكومة بالاتفاق مع جامعة بوسطن بعمل مدارس إضافية في تشيلسي لكل المراحل والمتفوق يأخذ منحة للدراسة في جامعة بوسطن، على اعتبار أن التعليم يحارب الإجرام.

واستقبلتني مدام جون زوجته استقبالاً كبيرًا وكريمًا جدًّا، ورغم أنني التقيت جون قبل عدة سنوات بالإسكندرية إلا أنها كانت غير كافية لأتعرف على هذه السيدة الكريمة والمضيافة، وفرت لي جون كل سبل الراحة، وقامت في أول ليلة بإعداد عشاء مصري رائع (مكرونة وفراخ بانيه) من أجلي.

ولا أنسى ماكس الكلب الذي ينبح كلما أتحرك في البيت، ويحاول الاقتراب منى ليتعرف عليَّ ويتأكد أني شخص آمن ويظل عاطف وجون يبعدانه، وأذكر أن جون أكدت لي قبل أن أغادر المنزل أن ماكس مرحب بي، وأن له حركات تفهمها هي جيدًا تدل على ترحيبه بالضيف.

منزل عاطف يوسف عبارة عن بيت أو فيلا كما نقول في مصر، مكون من 3 طوابق الأرضي مكون من أنتريه كبير وحجرة للتلفزيون به أنتريه أيضًا، ومطبخ وحمام، وفي الطابق الثاني حجرة مكتب للأستاذ عاطف، وحجرتين نوم، والطابق الثالث حجرتين نوم وحمام، وكانت غرفتي في الطابق الثالث، وفوجئت بأنها معدة كأنها فندق 5 نجوم، ولم ينس عاطف وجون أدق التفاصيل حتى المناديل، وعدة الحلاقة، وكل شيء أبحث عنه أجده بكل بساطة، وسلة التفاح تستقبلني بمجرد أن أدخل الغرفة، وطبعًا حمام خاص بالغرفة وبه شطاف!.

وموضوع الشطاف حديث ذو شجون، فمشكلتنا كمسلمين وعرب بشكل عام، عندما نسافر إلى أوروبا وأميركا لا نجد شطافًا داخل الحمامات، وهو ما يسبب لنا أزمة نفسية، ولا نعرف كيفية التصرف في هذا الأمر؛ لأننا غير معتادين على ذلك، حتى إن بعض التجار الشطار اخترعوا الشطاف المحمول والذي يمكن أن تحمله معك إلى أي مكان تسافر إليه ويحل لك المشكلة.

ولا يجب أـبدًا أن أنسى الحديقة الجميلة التي تحيط بمنزل عاطف والمليئة بالتفاح والذي يقع على الأرض من كثرته، ويزرعون فيها عددًا من الفواكه والخضراوات، جلست فيها مع عاطف طويلاً نشرب الشاي ويحكي لي عن ذكرياته ومغامراته في فرنسا وأميركا.

المكان رائع بكل المقاييس، وكل المنازل من حولنا في منطقة “هيفرهيل” الذي يقع بها المنزل بنفس الشكل والجمال ويتميز تصميم البيوت بالبساطة الشديدة والتي تعطي في النهاية منظر مريح للعين دون أي بهرجة أو مبالغة.

أخذني عاطف قبل الإفطار للتمشية قليلاً حول المنزل لأشاهد المنطقة، وجدت مناظر رائعة خلابة، تشعرك بالراحة، المساحات الخضراء تحتل 80% من المكان، والبحيرات تعطي ميزات إضافية للجمال والروعة، وتعجبت عندما علمت أن البيوت في هذه المنطقة يسكنها فرد أو اثنين فقط، والهدوء هو السمة الرئيسية للمكان، وقلت لنفسي: مكان رائع للإبداع بالفعل.

بعد الإفطار وشرب الشاي في الحديقة والحوار مستمر بالطبع مع الأستاذ عاطف ومدام جون حول كل الأمور ومصر بالطبع هي نقطة الارتكاز دائمًا في الحوار، انطلقنا إلى الغابة حيث يوجد غابة لهيفرهيل محاطة بالبحيرات.

مجرد أن دخلنا الغابة قال لي عاطف: “هل تشم هذه الرائحة؟” قلت له نعم توجد رائحة الشجر والزرع ومياه البحيرة كلها روائح جميلة.

رد قائلاً: لا أقصد هذه الروائح، وإنما أنا أشم رائحة السعادة، تأملت كثيرًا هذه الجملة ومدى جمالها وروعتها، فعلاً إنها رائحة السعادة.

لا يمكن أن أكون وسط هذه المشاهد الخلابة التي كنت أشاهدها بالتلفزيون وفي المجلات ولا أصدق بوجودها ولا أكون سعيدًا.

كل شيء ميسر من حولي لا يوجد أي مشكلة، نظام ثابت ومحدد والكل ملتزم ولا يتجاوز، والمخالف له عقاب فوري.

استمتعت بجولة رائعة في الغابة، ورغم مرور أكثر من ساعة إلا أننا لم ننه الغابة كلها، كما ذهبنا لمشاهدة القلعة داخل الغابة، وطبعا كاميرا الموبايل لم تتوقف منذ وصلت لتسجل هذه اللحظات الجميلة، وأكيد رائحة السعادة ستظهر في كل الصور التي التقطتها.

وسألت عاطف عن مستوى دخل المواطن الأميركي والحد الأدنى للمعيشة، فقال لي الأمر بشكل عام يختلف من ولاية لأخرى، إلا أن 1500 دولار هو الحد الأدنى للمعيشة، ولو المواطن الأميركي مرتبه ألف دولار فقط تعطيه الحكومة كوبونات للأكل محددة بأيام ومواعيد لمساعدته، وأعلى من 1500 دولار حتى 10 آلاف دولار هم الطبقة الوسطى، بينما أعلى من 10 آلاف يعتبر ثريًّا، وهم طبقة غير كبيرة.

عدنا إلى المنزل، وكانت لدي مشكلة في عدم وجود شاحن للاب توب أو الموبايل بسبب اختلاف نظام الفيشة بأميركا عن مصر، فبعد أخذ قسط من الراحة وشرب الشاي أخذني أستاذ عاطف إلى “وول مارت” لشراء فيشة، ولم نجد فذهبنا لمحل آخر قريب منه هو “ستابلز” واشتريت فيشة عبارة عن مشترك يصلح لكل أنواع الفيش، والحمد لله تمت العملية بنجاح.

ثم وجدنا جون، وقد أعدت العشاء لنا عبارة عن رز بالمكرونة الشعرية وفاصوليا خضراء وطبق  “بيف برجونيون” وهي أكلة فرنسية لذيذة جدًّا، عبارة عن لحم مهروس بالجزر، و”برجونيون” اسم مقاطعة بفرنسا، هذه المقاطعة تشتهر بإنتاج الخمور بنفس الاسم، ويمثل هذا الإنتاج جزءًا هامًّا من الاقتصاد الفرنسي؛ لأنهم يصدرونه، ويعتبر من الماركات العالمية للخمور، والمفترض أن يتم نقع اللحم في الخمر ليتم تسويتها، ولكن جون لم تطبخها بالخمر من أجلي، وتأكدت أن جون ماهرة في الطبخ جدًّا.

وبعد أن تعطرت أنفي برائحة السعادة في رحاب غابة هيفرهيل تعطرت في اليوم التالي برائحة العلم والثقافة في رحاب جامعة هارفارد بكمبردج وهي من أعرق الجامعات الأميركية وعلى مستوى العالم.

وهارفاد ليست مجرد جامعة، بل هي مجتمع وحياة متكاملة من مبان ومحلات ومكتبات ومطاعم وبنوك وكل شيء مرتبط بهارفارد، وكلها لها لون أحمر غامق أو نبيتي ليميزها عن غيرها من المباني.

المشاهد رائعة، الحياة جميلة، الناس لديهم حيوية غير عادية، الميدان يعج بالناس، الكل يتحرك في اتجاهات مختلفة، الكل يقرأ، دخلنا مكتبة لبيع الكتب، ظننت لوهلة أنها مول، قال عاطف لي إنها مكتبة صغيرة! تعجبت من كلمة “صغيرة” وضحكت، الأغرب أني وجدت المكتبة مزدحمة بالناس لشراء الكتب، وجلسنا في كافيه وشربت شايًا باردًا، وشاهدت لاعبي الشطرنج وهم يتراهنون على الفوز.

دخلت الجامعة وشاهدت تمثال جون هارفارد مؤسس الجامعة، وتصورت بجانب التمثال وأنا أمسك بحذائه مثلما يفعل كثيرون، التصوير بالطابور، الكل يريد أن يتمسح بحذاء هارفارد، الحذاء أصبح لامعًا من كثرة التمسح به، آه لو هارفارد كان يعلم ذلك.

كان يوم جمعة، فطلبت من عاطف أن أصلي الجمعة في مسجد قريب، فقال لي لا يوجد مسجد قريب، ولكن توجد كنيسة بداخلها مسجد وتلك قصة أخرى، فقلت له ستكون تجربة جديدة، فذهبنا للكنيسة لنصلي الجمعة، فوجدتها مغلقة للتصليحات، فضحك عاطف وقال: “بركة يا جامع”.

وحكاية المسجد الذي يقع في الكنيسة يرجع لسنوات ماضية، عندما أراد بعض المسلمين أن يصلوا الجمعة، ولم يكن هناك مسجد قريب، وعدد المسلمين يزداد، فكانوا يفترشون شارع جانبي للصلاة، ولكن تم منعهم لعدم قانونية ذلك.

فأخذوا يبحثون عن مكان يصلح للصلاة، ثم وجدوا فناءً خلفيًّا تابع لكنيسة في وسط بوسطن، هذا الفناء غير مستخدم، ففكروا في تأجيره من الكنيسة وإقامة الصلاة عليها، إلا أن الكاهن بالكنيسة عندما علم أنهم مسلمون رفض أن يأخذ مقابلاً، وقال لهم لن آخذ مقابلاً طالما ستعبدون الله في هذه الفترة من كل أسبوع، واستمر الحال من لحظتها حتى الآن.

وفي وسط بوسطن، التقطت عدة صور أمام الكنائس العريقة والتاريخية ومكتبة بوسطن الرسمية، وأيضًا الفندق الذي اشتراه الملك عبد الله ملك السعودية السابق.

عاطف يقول: “الأمريكان شعب متدين”، بينما المصريون يقولون: “الأمريكان كفرة”! تأملت بين المقولتين ولم أعرف ماذا أقول.

وعاطف شخصية غريبة إلى حد كبير، هو فيلسوف ساخر، رافض لطبائع وعادات العرب والمصريين، ولكنه يكتب بالعربية ويؤلف روايات وقصصًا، ويكتب مقالاً أسبوعيًّا بالعربية، ولذلك قلت له أنك مرتبط بمصر غصب عنك، فضحك وقال لي أنه يحب مصر الشعبية والمناطق التي تربى بها، وليست الحياة المرفهة والغنية في مصر، فهو يعيش في أميركا هذه الحياة.

هو غير مهتم بالدين بشكل رئيسي ولكنه يبحث، لا يصلي وغير مهتم بالصلاة، وهو يعلن ذلك، ولكنه محب للحياة، أما زوجته فهي ملاك وتتحمله كثيرًا.

(وللحديث بقية)


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس وجهة نظر الموقع


تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى