رأي

أميركا قِبلة المهاجرين وحلم اللاجئين (2)

حكاية بوسطن تي بارتي واستقلال الأميركان عن الإنجليز

في 2009 عندما وصلنا مدينة بوسطن أنا وزملائي، كان هناك شعور عام بارتياح تجاه هذه المدينة، فنحن في ميناء هام على المحيط، ومشهد المياه أمر طبيعي جدًّا داخل بوسطن سواء مياه المحيط أو بعض البحيرات، وأعتقد أن هذا المشهد كان مريحًا لي بشكل خاص بصفتي سكندريًّا، تعودت أن أرى مياه البحر حتى في عملي بمكتب مجلة أكتوبر بالإسكندرية الذي يطل على البحر، ومن بعدها في مكتبة الإسكندرية، فالبحر دائمًا جزء من حياتي، ومشهد طبيعي بالنسبة لي فيها.

إن الحديث عن مدينة بوسطن مشوقًا، فهي مدينة ذات روح وثقافة وتاريخ وهو الأهم، وقد تكون طبيعتي السكندرية جعلتني أشم رائحة التاريخ والثقافة بمجرد أن وطئت قدمي أرض بوسطن، وقد كان حدسي في محله، حيث عرفت أن ببوسطن أعرق الجامعات، وتنتشر بها المكتبات ليس هذا فقط، بل هي مدينة الثوار الأمريكان الذين كانوا سببًا رئيسيًّا في استقلال أميركا عن إنجلترا.

وبوسطن من أقدم المدن الأميركية وأعرقها حيث أنشأها الإنجليز عام 1630م، واعتبرت الميناء الرئيسي للمستعمرات حيث تبحر منها السفن المتجهة لإنجلترا وجزر الهند الغربية، لهذا نمت بسرعة خلال فترة الاستعمار، وما زالت المباني الأنيقة التي يرجع تاريخها إلى القرن الثامن عشر الميلادي قائمة على امتداد الشوارع الضيقة والمتعرجة، وتُعرف بوسطن بمهد الحرية، حيث شهدت مولد الثورة الأميركية (1775-1783م)، وقد حدثت بقربها مذبحة بوسطن وغارة “بوسطن تي بارتي” وعدة معارك كبيرة من حروب الثورة الأميركية، وفي كل عام، يتوافد السياح لزيارة بوسطن لرؤية ما يذكرهم بفترة الثورة، مثل بيت بول ريفير وقاعة فينول وبيت الدولة القديم، وغيرها من الأماكن التي كانت قائمة في فترة الاستيطان.

أما “بوسطن تي بارتي” الشهيرة فتعني حفل شاي بوسطن، وهو اسم أطلق على غارة قام بها المستوطنون الأميركيون على ثلاث سفن بريطانية كانت ترسو بميناء بوسطن في السادس عشر من ديسمبر 1773م، حيث أفرغ المستوطنون الذين تنكروا في زي الهنود 342 صندوقًا من الشاي في مياه الميناء ليتجنبوا دفع الضريبة البريطانية على الشاي، وجاء رد الفعل البريطاني متشددًا، مما وحد المستوطنين، ومهد لحركتهم تجاه الاستقلال.

وكان البرلمان الإنجليزي قد فرض رسومًا (ضرائب استيراد) على عدد من البضائع التي تستوردها أمريكا، مما جعل الكثير من المستوطنين يعتبرون هذه الضرائب غير قانونية، وعقدوا العزم على عدم دفعها. وفي عام 1770م ألغت الحكومة البريطانية كل الرسوم عدا رسم استيراد الشاي، وفي عام 1773م أقر البرلمان قانون الشاي للمساعدة في إنقاذ شركة الهند الشرقية، وهي إحدى الشركات التجارية البريطانية من أزمتها المالية، وبموجب هذا القانون أصبح للشركة الحق في بيع الشاي في أميركا بسعر منخفض إلا أن الشاي كان خاضعًا للرسم الذي تقرر عام 1767م، وسرعان ما شُحن الشاي إلى أميركا لتوزيعه على وكلاء الشركة الذين احتكروا بيعه، وخشي المستوطنون أن يؤدي هذا الاحتكار إلى كساد تجارة بعض التجار المحليين الوطنيين، كما أنهم خشوا أن يفرض البريطانيون ضرائب أخرى إذا هم دفعوا رسوم الشاي.

وما إن رست سفن الشاي في ميناء بوسطن حتى حاول المستوطنون إعادتها إلى إنجلترا إلا أن حاكم الولاية “توماس هتشنسون” رفض هذه المحاولات، وبإشارة متفق عليها ـربما صدرت من زعيم المقاومة صمويل آدمز، قام عدد غير معروف من الرجال نحو المائة أو أكثر باعتلاء ظهر السفن وإلقاء حمولتها في البحر، وسط إطلاق النيران، وقد أصدرت الحكومة البريطانية ردًّا على هذا الحادث عددًا من الإجراءات المتشددة في عام 1774م، عُرفت باسم القوانين القسريّة، وقد وحدت هذه القوانين معارضي الحكم البريطاني وأدت إلى اجتماع المؤتمر القاري الأول، وهو اجتماع لمندوبي اثنتي عشرة مستوطنة أميركية.

وأطلق على هذه الموقعة موقعة “حفل الشاي أو Tea Party” وظلت هذه المركب قائمة كدليل على هذه الثورة إلى أن اختفت وتفككت وغاصت معظم قطعها فى الماء، ولم يبق إلا مجرد لافتة صغيرة على المكان فقط.

ورغم ضيق مدة الرحلة، وازدحام العمل في مهمتنا ببوسطن، إلا أنني كنت أنوي ألا أترك الفرصة، وأحاول الاستفادة قدر الإمكان من هذا الأسبوع في التعرف على المدينة والتجول بها وبشوارعها وبأهم معالمها وزيارة أهم المتاحف أو الأماكن الثقافية الشهيرة خاصة موقعة “حفل الشاي”.

وكنت أنوى أن أزور هذا المكان معتقدًا أن المركب ما زالت موجودة فسألت “ماكس جروب” منظم الرحلة والمنسق مع هالة مرجان من أميركا فضحك، وتعجب من معرفتي بالحكاية، وأضاف مازحًا أن المركب أصبح ليس لها وجود الآن، ولكي أذهب إلى موقعة “حفل الشاي” يمكنني فقط أن أعمل حفلاً للشاي في حجرتي بالفندق وأعزم عليه أصدقائي!.

نيو انجلند المكان الذى خرجت منه ثورة الاميركان

ورغم تقبلي لمزحته، إلا أنني تضايقت جدًّا لأنه ضاع مني مكان هام كنت أنوي أن أذهب إليه في بوسطن، إلا أنه ليست “سفينة الشاي” فقط هي التي ضاعت مني، بل ضاع مني أماكن أخرى كثيرة كنت أنوي زيارتها خلال الرحلة بسبب أصدقائي وزملائي، المرافقين لي في الرحلة فقد كان كل همهم هو التسوق وجلب أشياء أظن أنها موجودة كلها في مصر، حتى لو هناك فرق في الأسعار فإن هذا الفرق –في وجهة نظري- لا يساوى أهمية أن نشاهد المدينة وأن نزور متحفًا أو مكتبة أو مكانًا أثريًّا، وقد حاولت أن أشرح وجهة نظري هذه كثيرًا دون فائدة فهم لا يعترضون عليها ولكنهم لا ينفذونها.

إلا أنني في صباح اليوم الأخير من الرحلة قررت عمل جولة بالمركب حول بوسطن تكلفت 14 دولارًا فقط، وبالفعل ذهبت صباحًا، ولم يذهب معي سوى الزميلين أشرف شرف ومحمد المرشدي فقط، إلا أن الاثنين أجمعا معي على أن هذه الرحلة كانت أهم شيء فعلناه في بوسطن، فالرحلة كانت رائعة واستمتعنا بها جدًّا لمدة ساعة، رأينا خلالها كل معالم بوسطن من خلال جولة المركب، والتقطنا الصور والفيديو وقضينا وقتًا ممتعًا، ثم رجعنا لزملائنا نحكي لهم عن رحلتنا، وتناولنا الغداء ثم رجعنا للفندق، وأخذنا شنطنا لنغادر.

من داخل المركب أشاهد معالم بوسطن

ووجدت أنه لدي حوالى ساعة قبل مغادرة الفندق إلى المطار، وبالفعل استغليت الوقت وقمت بعمل جولة حول الفندق حيث يوجد الميناء والأكواريوم، وخاصة أنه كان يوم سبت وأجازة، فكانت الشوارع مزدحمة ومليئة بالناس، وتجولت بمفردي وكنت مستمتعًا جدًّا بهذه الجولة الجميلة رغم قصرها، وأخذت عدة صور للشاطئ وبه المراكب ترسو عليه، ولاحظت على الكورنيش وجود العشاق، وهو شيء طبيعي وعادي في كل مكان في العالم، ولكن لفت نظري مشهد لا أستطيع نسيانه، حيث شاهدت رجلاً وامرأة فوق الستين عامًا يشبكان أيديهما مع بعضهما البعض، ويسيران بخطوات بطيئة متثاقلة، ويتناولان الحديث بشوق وغرام، ثم جلسا على أحد الكراسي ليستريحا قليلاً، وأثناء هذه الاستراحة فوجئت بتبادلهما لقبلة طويلة ساخنة استمرت عدة دقائق، لم أصدق عَيْنَيّ، إن هذين العجوزين لا يزالان يعيشان حياتهما، ويتمتعان بالرومانسية، ويمارسان الحب، إنه مشهد غريب بالنسبة لنا كمصريين، فالأزواج لدينا بمجرد بلوغهم الخمسين، وقد يكون أقل لا يكون هناك أي حوار بينها إلا عن مشاكل الأولاد والمدارس أو زواج البنت وغيره من مشاكل الحياة اليومية، ومن ثم يحدث فراغ عاطفي كبير لدى كل من المرأة والرجل، إن مشاهد الحب والغرام التي نشاهدها سواء في الشارع أو في الأماكن العامة نجدها غالبًا بين المراهقين أو شباب الجامعات أو المخطوبين على أحدث تقدير إن لم يكن بينهم مشاكل، ثم بمجرد الزواج تبدأ هذه المشاهد في الاختفاء التدريجي خاصة بعد أن يرزقا بالأولاد، أما أن يمارسا الحب أو يستمتعا بقدر من الرومانسية بعد الخمسين فكان هذا غريبًا، ولولا أنني خشيت من تلصصي عليهم بالمشاهدة؛ لأنه مخالف للقانون حيث إني بذلك أخترق خصوصيتهم، لقمت بتصويرهم لتكون صورة نادرة للذكرى.

(وللحديث بقية)


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس وجهة نظر الموقع


تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى