من زاوية صحفية، نعلم أن لكل قصة وجهين، ولكل رواية طرفين، لكن المشكلة تبدأ حين يُسمح لرواية واحدة أن تهيمن على الساحة، خاصة حين تكون مشحونة بالعاطفة والصراخ. وهنا يُسحق صوت الطرف الآخر، ويُترك في صمتٍ مؤلم، لا يدل على ضعف، بل على كرامة.
في مجتمعاتنا، حين تصل العلاقة الزوجية إلى طريق مسدود، لا يُمنح الجميع حق الحديث. يُسمع صوت من يصرخ أكثر، ويُصدَّق من يُتقن رواية الألم، حتى ولو كانت مجتزأة، أو حتى مختلقة.
وردتني قصص عديدة لشباب وصبايا مرّوا بتجارب قاسية بعد طلاق لم يختاروه، لكنهم وجدوا أنفسهم متهمين ومُدَانين في نظر المجتمع، لا لأنهم أخطأوا، بل لأنهم صمتوا.
في هذه القصص، يتكرر مشهد مؤلم: فمن يقرر إنهاء العلاقة، لا يكتفي بالرحيل في سلام، بل يقرر إلحاق الأذى بالطرف الآخر قبل أن يغادر.
فتراه يُشوّه صورة الشريك، ويخترع له تهمًا، ويوزعها بسخاء على من حوله، وكأن الكرامة لم تكن يومًا جزءًا من العلاقة، وكأنه لم يسمع لقول الله تعالى “ولا تنسوا الفضل بينكم”.
ولكي أكون منصفة، ولا أنحاز لأي طرف، فكل علاقة تحمل خصوصيتها، ولكل طرف ألمه ووجعه. لكن العدالة الحقيقية في مجتمعنا تبدأ حين نتوقف عن الاستماع لرواية واحدة فقط، وحين نمنح الطرف الآخر حقّه في إيصال صوته، حتى ولو لم يصرخ.
فقد علمتنا الحياة أن الصوت العالي ربما يكون دليلًا على ضعف موقف صاحبه، وأن الصراخ لا يمنح الحق ولا يبرر الانحياز لمن يصرخ، كما أن السكوت لا يعني بالضرورة الإدانة أو ثبات التهمة على من سكت، فلربما سكت ليعلي صوت أصله وكرامته.
من يختار أن يرحل، فليرحل. لكن فليرحل بالحسنى، بكرامة ومخافة من الله، وبلا أكاذيب، فالبيوت لا تُبنى بالكذب، ولا تُهدم إلا بالأحقاد. واحترام ما كان، حتى وإن انتهى، هو ما يميز الإنسان النبيل عمن سواه.
قد يكون هناك ارتفاع مقلق لنسب الطلاق بين الشباب العربي في أمريكا، لكن ما يدعو للقلق أكثر هو أن الطلاق يحدث لأسباب لا ترتقي إلى هدم البيوت، وإنهاء علاقة يفترض بها أن تكون مقدسة، خاصة وأن الله تعالى وصف الزواج في كتابه الكريم بأنه “ميثاق غليظ”.
ولا أدري حقيقة كيف ينهار هذا الميثاق الغليظ بسبب خلافات بسيطة، أو غياب الصبر، أو بسبب تضخيم التفاصيل، والتدخلات خارجية، أو حتى بسبب ملاحقة صورة مثالية للزواج قد لا يكون لها وجود على أرض الواقع.
فالحياة مليئة بالمشكلات والتحديات والمواقف الصعبة، ومهمة الشريكين أن يكونا سندًا ودعمًا لبعضهما البعض في مواجهة هذه المشكلات، فمصيرهما واحد، وهمهما مشترك، ونجاح العلاقة لن يتحقق إلا بطرفيها.
نعم، قد تكون المشكلات أكبر من الاحتمال، وقد يكون لكل طرف الحق في اتخاذ قرار الانفصال إذا استُنفدت كل السبل، ولا أحد يملك أن يُجبر أحدًا على البقاء في علاقة لا تمنحه الأمان أو الاحترام.
لكن في المقابل، ليس بهذه السهولة تُفكك البيوت وتنهار، ولا بهذه الطريقة تُعالج الخلافات. فالعلاقات الزوجية لا تقوم فقط على الحب أو الانسجام، بل على الالتزام، والقدرة على التحمّل، والرغبة في الإصلاح، والإصرار على النجاح، لا على الهروب والاستسلام واستسهال الانسحاب.
ما يحدث اليوم يعكس أزمة أعمق من مجرد طلاق. إنها أزمة وعي، وأزمة قيم، وأزمة فهم لمفهوم العلاقة الزوجية ومسؤولياتها. والأخطر من ذلك، أن البعض لم يعد يفرّق بين الحرية والفوضى، ولا بين الاختلاف والتشويه، ولا بين إنهاء العلاقة واحترام من كان يومًا شريكًا للحياة.
إذا أردنا مجتمعًا عربيًا أميركيًا متماسكًا، فعلينا أن نعيد بناء مفاهيمنا من جديد: أن نُعلّم أبناءنا أن الزواج ليس “عقد تجربة” وإنما ميثاق حياة، وأن الطلاق ليس سلاحًا يُشهر عند أول خلاف، وأن احترام الآخر لا يتوقف حين تنتهي العلاقة… بل يبدأ من الطريقة التي ننهي بها ما بيننا.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس وجهة نظر الموقع