خمسةٌ وعشرون عامًا مرّت منذ أن غادرتُ سوريا، خمسةٌ وعشرون خريفًا وربيعًا وأنا أحمل في حقيبتي الصغيرة وطنًا من الذكريات.. مشاهد الطفولة، شغب المراهقة، وأحلام الشباب التي لم تفارقني يومًا.
في ذلك اليوم البعيد، كنتُ أماً ممسكةً بيد أطفالي، أشدّ على أصابعهم الصغيرة بينما أمضي نحو المجهول، تاركةً خلفي شرفات الياسمين، وأبواب البيوت المفتوحة على حكايات الجيران، وصوت أذان الفجر ينساب بين الأزقة الضيقة، ووجوهًا كنتُ أظنها خالدة في يومياتي.
غادرتُ وفي قلبي ألفُ وعدٍ بالعودة، لكن قطار الحياة لم يمنحني الفرصة، وأخذني معه إلى محطاتٍ بعيدة، إلى صخبِ المدن الأمريكية، إلى عالمٍ مختلف، حيث كانت الأيام تمضي بسرعة البرق، بين تربية أطفالي، ومتطلبات عملي، ومسؤولياتي التي أثقلت كاهلي.
لكن الحنين للوطن لم يفارقني، وظل ملازمًا لي كظلّي، يطلّ عليّ كل مساء حين أغمض عينيّ، وأتخيل نفسي جالسةً في أحد مقاهي دمشق، أرتشف قهوتي، وأسمع وقع الخطوات على حجارة طرقات دمشق العتيقة.
ثم جاء ربيع 2011… وكان ربيعًا ثقيلاً، لا يشبه أي ربيعٍ آخر. لم يكن فقط موسمَ الزهر، بل كان موسمَ الأمل والوجع معًا. رأيتُ وطني يتغيّر، رأيته يصرخ، يطالب بالحرية، وكان قلبي ينبض مع كل هتاف، مع كل حلمٍ وُلِدَ في ساحات المدن السورية.
اخترتُ أن أقف مع الثوار، مع الأحرار، أن أكون صوتًا ينقل الحقيقة، حتى لو كان الثمن غاليًا. وفي لحظةٍ واحدة، أصبحتُ منفِيّة عن وطني، ليس بقرارٍ رسمي، بل بقرارِ الخوف، بقرارِ الكلمة التي كانت سلاحي الوحيد.
مضت خمسة عشر عامًا وأنا أراقب وطني من خلف الشاشات، أسمعُ أخبار أهلي عبر الهاتف، وأحبّ دمشق من بعيد. كانت المسافة بيني وبينها تقاس بالوجع، لكنها لم تُطفئ حبي لها، ولم تنتزعها من قلبي لحظةً واحدة.
ثم جاء ذلك اليوم الذي لم أتخيّل أنه سيأتي أبدًا.. 8 ديسمبر من عام 2024، اليوم الذي سقط فيه النظام الأسدي، انهار كما ينهار الليل أمام أول خيوط الفجر.
لم يكن هذا اليوم عاديًا.. بل كان أحد أهم الأيام في حياتي.. يوم ميلاد جديدة لسوريا، ولحلم عودتي إليها الذي لم يمت رغم كل شيء. أخيرًا، سأعود.. أخيرًا، سأتنفس هواء دمشق دون خوف، سألمس جدرانها بيدي، سأسمع نبضها وأتأكد أنها ما زالت على قيد الحياة.
من عمّان بدأت رحلتي، وهناك عند الحدود، في معبر جابر، كان لقائي الأول مع وطني بعد غياب استمر 25 عامًا. لحظةٌ لا تُشبه أي لحظةٍ أخرى، لحظةٌ توقف عندها الزمن كله، ولم أجد ما أعبر به عن مشاعري أمامها إلا البكاء.
بكيتُ كما لم أبكِ من قبل، بكيتُ بدموعٍ امتزجت بها سنواتُ الفراق، والحنين، والشوق، والحرمان. لم أكن أريد أن أمسح دموعي، كنتُ أريد أن أعيشها، أن أتركها تغسل كلّ ما كان عالقًا في داخلي من أوجاع.
مشيتُ إلى الأمام، واحتضنتُ تراب الوطن، ضممتُه إلى صدري كطفلٍ ضاع عن أمه طوال هذه المدة وعاد إليها أخيرًا.
في تلك اللحظة، لم أكن مجرد امرأةٍ عائدة إلى وطنها، كنتُ سوريةً تولدُ من جديد، تستعيدُ هويتها التي لم تفقدها يومًا، لكنها كانت تفتقدها في تفاصيل الحياة اليومية. شعرتُ لأول مرة في حياتي أنني أنتمي إلى هنا، أنني لستُ غريبة، وأنني جزءٌ من هذه الأرض ال تي افتقدتها كثيرًا.
دخلتُ دمشق… لم تكن كما تركتها، لكن روحها كانت كما هي. مشيتُ في شوارعها، لمستُ حجارتها العتيقة، وشممتُ عبق الياسمين الذي لم يفقد حضوره رغم كل ما مرّ به الوطن.
نزلتُ في فندق “آرام”، في قلب الحارات الدمشقية، حيث تختلط رائحة القهوة الصباحية بدعوات الأمهات العابرات: “الله يجبر خاطرك”.
كل شيء هنا كان يهمس لي: “عدتِ أخيرًا”. شعرتُ أن دمشق تبتسم لي كما تبتسم الأم حين يعود ابنها إليها بعد سنوات الغياب.
مشيتُ في الميدان، مررتُ بالمزرعة، وسرتُ في شارع العابد، وساحة الأمويين، باب توما، القصاع، ودمشق القديمة، توقفتُ في كل زاوية، بحثتُ عن ملامح دمشق التي حفظتها في ذاكرتي.
هناك، في زوايا الأزقة، في وجوه العابرين، في ضحكات الأطفال رغم الفقر، في صوت الرجل العجوز الذي يبيع الكتب القديمة، وجدتُ دمشق الحقيقية… دمشق التي لم ينجح القهر في قتلها، دمشق التي لا تموت.
سألت الناس كيف حالهم؟ كيف يعيشون بعد كل هذا الألم؟ كيف استطاعوا أن يبقوا صامدين رغم كل الجراح؟ نظروا إليّ بعيونٍ متعبة، لكنها كانت مليئةً بالأمل، وقالوا: “رغم الحزن، نحن بخير…بالأمل سنبني بلدنا من جديد”.
في تلك اللحظة، شعرتُ بشيءٍ يشبه اليقين، كأن دمشق نفسها كانت تهمس لي: “أنا هنا… وسأبقى”.
ابتسمتُ… فأنا في دمشق
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس وجهة نظر الموقع