أثبتت الحرب الجامحة التي تشنها إسرائيل على غزة والمستمرة منذ قرابة 12 شهرًا، أنها أكثر الصراعات دموية على الإطلاق بالنسبة للصحفيين، فضلًا عن الموت والدمار والمعاناة الذي سببته للمدنيين في القطاع الفلسطيني.
وبعد مرور عام واحد، تحدثت قناة NBC News إلى 21 من المهنيين والمنظمات الإعلامية في المنطقة، الذين وصفوا تجاربهم مع عمليات القتل والهجمات والاعتقالات التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية.
حتى 31 أغسطس/آب، قُتل 116 صحفياً منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وفقاً لإحصاءات لجنة حماية الصحفيين، وهي منظمة غير ربحية مقرها نيويورك. وكان أغلبهم (111) فلسطينياً قُتلوا في غزة، و3 لبنانيين، واثنان من الصحفيين الإسرائيليين، الذين قُتلوا على أيدي مسلحين من حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. كما أصيب 35 آخرون.
قتل الصحفيين
ورصدت مجموعات مراقبة أخرى أرقاماً أعلى بكثير، وذلك رغم أن الجيش الإسرائيلي قال إنه “يتخذ كل التدابير الممكنة من الناحية العملياتية للتخفيف من الأذى الذي يلحق بالمدنيين بما في ذلك الصحفيين” و”إنه لا يطلق النار عمدًا على المدنيين، بما في ذلك الصحفيين”.
لكن بعض الصحفيين، استناداً إلى تجاربهم الشخصية في الميدان أو إدارتهم لزملائهم من خارج غزة، توصلوا إلى نتيجة مفادها أن إسرائيل تستهدف العاملين في مجال الإعلام بشكل عمدي.
ومن بينهم كريستينا عاصي وديلان كولينز، اللذان أصيبا بنيران القذائف في 13 أكتوبر/تشرين الأول أثناء تغطيتهما للاشتباكات عبر الحدود بين الجيش الإسرائيلي وجماعات مسلحة بالقرب من قرية علما الشعب في جنوب لبنان .
وقُتل الصحفي في وكالة رويترز عصام عبد الله (37 عاماً) على الفور في نفس الضربات التي جاءت بفارق زمني يزيد قليلاً عن 30 ثانية. وأدانت رئيسة تحرير وكالة رويترز أليساندرا جالوني مقتله، وقالت إن الأدلة “تظهر أن طاقم دبابة إسرائيلية قتل زميلنا”.
وقالت عاصي لشبكة NBC News الشهر الماضي إنها “فقدت الإحساس في ساقيها على الفور، فبدأت في الصراخ طلبا للمساعدة”. وأضافت أن كولينز “هرع لمساعدتي، وبعد ثوانٍ، تعرضنا للهجوم مرة أخرى”، واضطرت المصورة في وكالة الأنباء الفرنسية (أ ف ب) إلى بتر ساقها اليمنى.
استهداف متعمد
وخلصت تقارير منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومن رايتس ووتش وجماعات حقوقية أخرى، فضلاً عن تحقيق معمق في الضربات التي نفذتها القوات الإسرائيلية، إلى أن المجموعة الصحفية كانت على الأرجح مستهدفة.
وقالت هيومن رايتس ووتش في تقريرها: “تشير الأدلة المصورة وتحليلات الصوت التي أجراها خبراء وروايات الشهود إلى أن المجموعة كانت مرئية لكاميرات طائرة بدون طيار قريبة من المرجح أنها إسرائيلية، وكانت ضمن خط رؤية خمسة أبراج مراقبة إسرائيلية، ومن المرجح أنها استهدفت بذخيرة واحدة على الأقل أطلقت من المدفع الرئيسي لدبابة من موقع عسكري إسرائيلي يبعد حوالي 1.5 كيلومتر (أقل بقليل من ميل) إلى الجنوب الشرقي”.
جريمة حرب
وقالت منظمة العفو الدولية إنه ينبغي التحقيق في الأمر باعتباره “جريمة حرب”. وفي تقريرها، قالت إنها لم تجد “أي مؤشر على وجود أي مقاتلين أو أهداف عسكرية في موقع الضربات، مما أثار مخاوف من أن هذه الضربات كانت على الأرجح هجمات مباشرة على المدنيين”.
وقالت عاصي إنها تعتقد أنهم “استُهدفوا” لأنهم صحفيون. ويتفق كولينز، مصور الفيديو لدى وكالة فرانس برس، مع تقييمها. وأضاف أن مجموعة الصحافيين كانت في موقعها لمدة ساعة تقريبا قبل الهجوم، وكانوا جميعا يرتدون خوذات وسترات واقية من الرصاص مكتوب عليها كلمة “صحافة”.
وأضاف أن سيارتهم كانت تحمل علامة “تلفزيون”. وقال “كنا مرئيين لأبراج مراقبة إسرائيلية متعددة، وكانت طائرات بدون طيار تحلق حولنا طوال الوقت”.
وتابع: “لقد كانت ضربتان، بفارق 37 ثانية في نفس الاتجاه، وتبعهما ما يقرب من دقيقتين من رشقات نارية متقطعة من أسلحة عيار 50”. “لذا فإن هذا ليس مجرد هجوم. إنه هجوم مستهدف مستمر ضد مجموعة من الصحفيين، وأعتقد أنه كان يهدف بوضوح ليس فقط إلى تخويف الناس وإبعادهم، وليس فقط قتل شخص واحد، بل قتلنا جميعًا”.
قتل وافتراء على الضحية
وعلى النقيض من عاصي وكولينز، لم ينجُ العديد من الصحفيين الآخرين الذين غطوا الأحداث. فقد قُتل أغلبهم في غزة، بما في ذلك مراسل قناة الجزيرة إسماعيل الغول ومصوره المستقل رامي الرفاعي، وكلاهما يبلغ من العمر 27 عاماً. وكان الاثنان في مهمة في شمال غزة عندما ضربت طائرة بدون طيار إسرائيلية سيارتهما في 31 يوليو/تموز.
وفي بيان لشبكة NBC News الشهر الماضي، زعم الجيش الإسرائيلي ـن الغول كان “إرهابيًا من نخبة حماس شارك في مذبحة السابع من أكتوبر وعمل صحفيًا لقناة الجزيرة خلال الأشهر القليلة الماضية”.
كما أصدر الجيش الإسرائيلي لقطة شاشة لقائمة بأسماء يعود تاريخها إلى عام 2021. وقال إنه “تم العثور عليها على أجهزة كمبيوتر تابعة لحماس تم ضبطها في قطاع غزة”، مما يشير إلى أن الغول “كان مهندسًا في لواء غزة التابع لحماس”.
لكن هذه المزاعم مشكوك في صحتها، فقد أظهرت لقطة الشاشة أن الغول حصل على رتبة عسكرية في 1 يوليو 2007، رغم أنه كان يبلغ من العمر وقتها 10 سنوات. ويظهر عمود آخر في القائمة أنه تم تجنيده في عام 2014. وقد تواصلت NBC News مع الجيش الإسرائيلي لتفسير هذا التناقض.
وفي بيان شديد اللهجة صدر بعد وقت قصير من الهجوم، وصفت قناة الجزيرة هذا الادعاء بأنه “لا أساس له من الصحة”، مضيفة أنه يسلط الضوء على “تاريخ إسرائيل الطويل من الافتراءات والأدلة الكاذبة المستخدمة للتغطية على جرائمها الشنيعة”. وقد تم ذكر الغول في ذكرى مسابقة إيمي للأخبار والأفلام الوثائقية يوم الأربعاء الماضي.
نمط إنكار ثم كذب
وقالت جودي جينسبيرج، الرئيسة التنفيذية للجنة حماية الصحفيين، إن منظمتها حددت نمطًا مشابهًا بعد وفاة أعضاء آخرين في وسائل الإعلام.
وقالت إن “إسرائيل تتبع نهجاً مألوفاً كلما قتل صحفي بهذه الطريقة. ففي كثير من الأحيان ينكرون في البداية أنهم قتلوا الفرد على الإطلاق، ثم يتهمون الصحفي بأنه إما إرهابي أو منخرط في نشاط مسلح”.
وأضافت أن لجنة حماية الصحفيين تحتفظ بسجلات “لأكثر من 30 عامًا، وهذه الفترة هي الأكثر دموية على الإطلاق بالنسبة للصحفيين”.
وقال وليد العمري، مدير مكتب الجزيرة في الضفة الغربية المحتلة ، في مقابلة الشهر الماضي، إن إسرائيل سمحت لعدد من مراسليه بمغادرة غزة بعد أن اتهمتهم بأنهم أعضاء في حركة حماس. وقال في تصريح من مكتبه في رام الله: “إذا كان الصحفي من حماس كما يقولون في اتهاماتهم فلماذا أفرجوا عنه؟”.
وضع لا يطاق
وحول المعاناة والمخاطر التي يواجهها الصحفيون في غزة قال العمري: “منذ اليوم الأول لهذه الحرب، كنا نحسب التكاليف في ظل هذا الوضع الذي لا يطاق. خمس مرات اضطررت إلى الإعلان على شاشة التلفزيون أن أحد زملائنا أو أحد أفراد عائلته قُتل في هذه الحرب”.
فقد وائل الدحدوح، مراسل الجزيرة في غزة، خمسة من أفراد عائلته المقربين، من بينهم ابنه حمزة الذي كان يعمل أيضًا مع الشبكة، حيث قُتل في غارة جوية إسرائيلية في يناير/كانون الثاني الماضي، إلى جانب المراسل المستقل مصطفى ثريا.
وفي بيان لشبكة NBC News، قال الجيش الإسرائيلي إنه “يعتبر حرية الصحافة ذات أهمية قصوى، مع توضيح أنه في ضوء تبادل إطلاق النار المستمر، فإن البقاء في منطقة قتال نشطة ينطوي على مخاطر متأصلة”.
وأضاف البيان أن “الجيش الإسرائيلي سيواصل مواجهة التهديدات مع الاستمرار في التخفيف من الأذى الذي يلحق بالمدنيين”.
تكميم الأفواه
وفي يوم الأحد الماضي، داهمت قوات إسرائيلية مسلحة مكتب الجزيرة في رام الله وأمرت بإغلاق المكتب لمدة 45 يومًا، مدعية دون تقديم أدلة أن غرفة الأخبار “تُستخدم للتحريض على الإرهاب”. واستنكرت الجزيرة ادعاء إسرائيل ووصفته بأنه “لا أساس له من الصحة”، وواصلت البث من الأردن.
وجاء ذلك في أعقاب أمر صدر في مايو/أيار الماضي، أدى إلى قيام الشرطة الإسرائيلية بمداهمة مقر بث قناة الجزيرة في القدس الشرقية، ومصادرة المعدات هناك، ومنع بثها في إسرائيل وحجب مواقعها الإلكترونية. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تغلق فيها إسرائيل مؤسسة إخبارية أجنبية تعمل في البلاد.
وقال وزير الاتصالات الإسرائيلي شلومو كرحي بعد المداهمة: “لقد تمكنا أخيرا من وقف آلة التحريض التي تديرها قناة الجزيرة والتي تضر بأمن البلاد”.
الصحفيون أصبحوا هدفًا
وفي ظل النزوح المنتظم والقصف شبه المستمر، أصبح خطر تغطية الحرب مرتفعًا للغاية بالنسبة للبعض.
بعد أن أرسلت أطفالها للعيش في مصر، بقيت نور الحرازين في غزة لتغطية الحرب لصالح شبكة تلفزيون الصين العالمية، فخسرت أصدقاءها وزملاءها مع احتدام القتال.
وفي الشهر الماضي، قالت: “الحقيقة هي أن لا أحد في مأمن في غزة”، وذلك رداً على سؤال عما إذا كانت تعتقد أن إسرائيل تستهدف الصحافيين عمداً في غزة.
وأضافت: “لا يهم إن كنت رجلاً أو امرأة أو طفلاً أو مقاتلاً مسلحاً أو مدنياً أو طبيباً أو صحافياً… طالما أنك في غزة، فمن الممكن أن تصبح هدفاً”. وقال مسؤولون صحيون في غزة إن أكثر من 41 ألف شخص قتلوا في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول.
حجب الحقيقة
وفي كل مرة يغادر فيها أحد العاملين في مجال الإعلام قطاع غزة، لا يمكن استبداله، حيث منعت إسرائيل الصحفيين الإسرائيليين والدوليين من دخول غزة ما لم يكونوا برفقة الجيش الإسرائيلي – وهي خطوة غير مسبوقة في تغطية الحرب، وهي خطوة انتقدتها على نطاق واسع المؤسسات الإخبارية في جميع أنحاء العالم.
وقال ياردن ميخائيلي، المحرر في صحيفة هآرتس الإسرائيلية، إن بلاده “لن تكون مهتمة بالتورط في فضيحة” إذا مات أحد هؤلاء الصحفيين. لكنه قال إنه نتيجة للحظر “فإننا نحصل على نسخة مخففة للغاية من الواقع” ونفقد “الكثير من المعلومات”.
ولم يستجب الجيش الإسرائيلي عندما سألته قناة NBC News عن موعد السماح للصحفيين الأجانب بدخول غزة، لكن ديفيد مينسر، المتحدث باسم مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ، دافع عن هذه السياسة في مقابلة أجراها في أغسطس/آب مع قناة سكاي نيوز البريطانية.
وقال إن القطاع “منطقة حرب خطيرة للغاية” وإن إسرائيل تمنع العاملين في وسائل الإعلام من دخول القطاع من أجل سلامتهم.
إصرار على إكمال المهمة
وقالت الحرازين وهي تبكي إنه على الرغم من أن أطفالها في أمان إلا أنها “ليست سعيدة” بالابتعاد عن منزلها في غزة وتعهدت بالعودة يومًا ما. وأضافت: “أفتقد كل شيء في حياتي القديمة”.
ولا تزال كريستينا عاصي تعاني منذ شهور من العلاج والألم في طريقها الطويل للتعافي، لكنها تعهدت أيضًا بالعودة إلى العمل. وأضافت “إنهم يحاولون إسكات الصحفيين، ولا يريدون للصحفيين أن يقوموا بعملهم”. لكنها أضافت: “لا يزال بإمكاننا التحدث وإجراء المقابلات وأن نكون صوت من لا صوت لهم”.