المسيحيون في الشرق.. إبداع درامي يلقي الضوء على الدور الكبير والتاريخي للمسيحيين في الشرق الأوسط

إعداد وتوثيق: الدكتور معن الحسيني ــ أعده للنشر: أحمد الغـر

يشكل المسيحيون في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حوالي 5% من سكان المنطقة، وقد لعبوا منذ القدم دورًا كبيرًا في نهضة الحضارة العربية وحتى الإسلامية، إلا أنهم اليوم يواجهون العديد من التحديات الداخلية والخارجية التي تهدد وجودهم التاريخي، برنامج “المسيحيون في الشرق” استعرض نشأة المسيحية في الشرق وإسهاماتها والتحديات التي تواجهها اليوم في المنطقة.

نشأة المسيحية في الشرق

دخلت المسيحية في مناطق العرب التاريخية في شبه الجزيرة حوالي القرن الثاني، ويذكر الطبري والمقريزي وابن خلدون والمسعودي أن بعضًا من تلاميذ المسيح (عليه السلام) هم من بشّروا في أصقاع الجزيرة العربية، وهم على وجه الخصوص متّى وبرثلماوس وتداوس، وقد تقوّت المسيحية العربية فيها بعد تنصر قبائل كبيرة كليًا أو جزئيًا، أمثال تغلب وطيء وكلب وقضاعة وتنوخ، فضلاً عن المناذرة مؤسسي المملكة العربيّة جنوب العراق، والغساسنة مؤسسي المملكة العربيّة في الأردن وجنوب سوريا سيّما حوران، وعدد من القبائل الأخرى.

يقول الأب عبدو أبو كسم، مدير مركز الإعلام الكاثوليكي في لبنان: “بدايةً لا يستطيع أحد الإحاطة الشاملة بدينٍ أو حضارةٍ من خلال دقائق معدودات، ذلك يتطلب الكثير من العناء والبحث والتمحيص، والعودة إلى المراجع وإلى التاريخ والآثار ليستشف غنى هذه الحضارات والأديان، لكن المرء يستطيع أن يقدم لمحات وشذراتٍ سريعة تشكل بحد ذاتها موضوع تأملٍ وبحث عميقين لكل من يرغب في المزيد والتوسع.

إنني في هذه الدقائق المتاحة لي سأحاول إلقاء الضوء على انتشار المسيحية وتوسعها في المشرق العربي؛ الهلال الخصيب والجزيرة العربية، وإعطاء شذراتٍ عن إسهاماتها وإنجازاتها، أولًا علينا أن ندرك وبقناعة عميقة أن المسيحية نشأت ونمت وترعرعت وانتشرت انطلاقًا من أرض فلسطين، حيث وُلِدَ مؤسسها المسيح، الإيمان بالمسيحية يقوم أولًا على تجسد للمسيح، وهذا لطالما شكّل إشكالية كبرى في المسيحية ذاتها وعند الآخرين، فتتشكل كنيسة المسيح من الذين نالوا العمادة وأيدوا إنجيله وسلكوا الطريق الذي أعدها لمن يرغب أن ينال الخلاص ويحصل على الأبدية، إذن لم تُستَورَد المسيحية إلى بلاد الشرق، فهي وُلِدَت من رحم هذه الأرض، من عائلاتها ومن قراها ومدنها، من قبائلها، من معجن هذه البقعة المشرقية، من مآسيها وأفراحها، وهي تعتبر نفسها دائمًا وأبدًا وفية لهذه الأرض ولكل الذين يعيشون فوقها”.

المسيحية في بلاد العرب

يذكر العهد الجديد صراحة وجود عرب في القدس حين حلّ الروح القدس على التلاميذ الاثني عشر، وذكر القديس بولس في رسالته إلى غلاطية أنه أقام في بلاد العرب مبشرًا قسطًا من الزمن، وكان يقصد حوران وسائر جنوب سوريا والأردن، وعاصمتها بصرى الشام. وعقب ظهور الإسلام في القرن السابع، تعاون أغلب المسيحيون المشرقيون من عرب وسواهم مع الفاتحين وتمازجوا مع ثقافتهم، فضلاً عن اعتناق قسم من هذا النسيج للدين الجديد، وتم حفظ أغلب الكنائس والأديرة سالمة، ومارسوا شعائرهم دون قيود.

طبقًا لدراسات عدة، كان عدد سكان الهلال الخصيب؛ سوريا والأردن وفلسطين ولبنان والعراق حاليًا، عشية الفتوحات العربية 13 مليون نسمة، تدين الأغلبية الساحقة منهم بالمسيحية، سوى ما يقدر بـ 130 ألفًا كانت تدين باليهودية، ولم يرحل عدد كبير من العرب المسلمون من الجزيرة إلى الهلال الخصيب، كما لم يجبروا سكان هذه البلاد على تغيير دينهم، وبذلك بقيت الأغلبية على دينها المسيحي في بلاد الشام حتى آخر القرن الثالث الهجري، وكان عدد المسلمين والمسيحيين متساويٍ تقريبًا عشية الحروب الصليبية، أي بعد 5 قرون على مجيء الإسلام.

كان العرب المسيحيون في هذه الأرض منذ أن اعتنقوا المسيحية مبكرًا بعد مجيء المسيح (عليه السلام)، بل إن أول هجرة مسيحية تمت من القدس عندما احتلها الرومان سنة 70م إلى طبقة فحل في الأردن، حيث كانت قبيلة قداعة هي الحاكمة في الحقبة الرومانية، من الثابت أن هذه القبيلة قد اعتنقت المسيحية منذ عهد الملك مالك بن فهم، كما ذكر اليعقوبي، كما كان الأنباط بناة أعجوبة الزمان بترا في الأردن مسيحيين بدورهم، وقد احتفظوا بدينهم حتى بعد ظهور الإسلام كما أثبت ياقوت الحموي. أما في سيناء التي كانت تتبع إداريًا للكنيسة المصرية ومقرها الإسكندرية فقد انتشرت المسيحية بقوة أيضا، ويُذكر أن ميتا الذي خلف يهوذا الإسخريوطي هو من بشّر في سيناء.

كان لليمن حصة هامة في المسيحية العربية، وقد ذكر مؤرخون من أمثال روفينوس وهيرويزوس أن القديس متى هو مبشر اليمن والحبشة، كما كان للمسيحية في عُمان عدة قبائل وأساقفة ذكرهم ياقوت الحموي، وكذلك هو الحال في الساحل الشرقي أي قطر والبحرين والإمارات حاليًا، فكانت قبيلة بني تميم إحدى أكبر قبائل العرب من المسيحيين، ومن مشاهير تلك الحقبة بشر بن عمرو وطرفة بن العبد، وإلى جانب الجزيرة العربية وبادية الشام فإن جل قبائل العراق الجنوبية قد اعتنقت المسيحية ولعل أبرزها وأكثرها شهرة المناذرة، وأول ملوكها جذيمة الأبرش الذي اتخذ من الأنبار عاصمة له، وقد تعاقب سلسلة من الملوك المسيحيين عليها حتى القرن السابع، وإلى جانب المناذرة كان بنو إياد وبنو لخم، ولم يكن انتشار المسيحية أقل في الجزيرة الفراتية حيث قطن بنو بكر وبنو مضر وكلاهما من القبائل التي اشتهرت بالمسيحية وتكريم القديس سرجيس على وجه الخصوص.

المسيحيون في مصر وسوريا

أما في مصر، فقد دخلت المسيحية إليها عن طريق القديس مرقص الذي وصل إلى الإسكندرية حسب ما يتفق عليه المؤرخون حوالي عام 61م، قادمًا من ليبيا، حيث بشّر هناك أولًا بعدما عاد من روما على ما يذكر ساويروس بن المقفع في كتابه تاريخ البطاركة، ويعد القديس مرقص مؤسس الكنيسة القبطية، وقد صاحب النمو المطرد للمسيحيين في الإسكندرية وضواحيها أواخر القرن الأول رغم الاضطهاد الروماني لهم، وخاصةً إثر وفاة البابا عام 93م، حيث لم يُنتخب خلفه حتى عام 95م بسبب الاضطهادات وملاحقة المسيحيين، وعلى الرغم من ذلك فقد توافق الأساقفة على بطريرك جديد ما يدل أنه وعلى الرغم من الاضطهاد الذي لحق بالمسيحيين بعد نصف قرن تقريبًا على وجودهم في الإسكندرية إلا أن أساس كنيستهم كان من القوة بحيث لم ينقرض او يُباد باختلاف أنواع الاضطهاد.

يقدم ويل ديورانت بعض المميزات الاجتماعية للجماعات المسيحية في القرون الأولى، بما فيها جماعة مصر، فيقول: “كانت الأخلاق المسيحية عاملاً من عوامل انتشار الديانة، وازدجارًا لقيم المجتمع الإغريقي، ووضعًا لقانون يهذب حياة الإنسان، خصوصًا بعد فشل الفلسفة الرواقية في الأخلاق”.

المتقدم في الكهنة، جوزيف أنتيباس، راعي كنيسة القديس جاورجيوس تروي ميشيغان: “في سوريا؛ نحن لا نتحدث عن أكثرية أو أقلية، فالمسيحيون ليسوا عددًا، هم شريحة أساسية، مواطنون يؤمنون بالمواطنة والعيش المشترك، فالدين لله والوطن للجميع، يشترك مسيحيو سوريا بالمواطنة ويمارسون واجباتهم في حياتهم؛ وطنيًا وسياسيًا وثقافيًا، وفي بناء الوطن مع كل شرائح المجتمع العربي السوري، المسيحيون في سوريا هم سكان سوريا الأصليون، كانوا وما زالوا إلى يومنا هذا.

فقد انتشرت المسيحية في سوريا منذ القرن الأول الميلادي حسب النص الكتابي في كتاب أعمال الرسل (أصحاح 11 ـ عدد 26)، حيث دعي التلاميذ المسيحيون في أنطاكيا أولًا، وكانت أنطاكيا ومنطقة سوريا في غاية الأهمية، ولها تراث وعمق في الإيمان المسيحي، وهي العاصمة الدينية في العالم، وبعد زلزال دمر مدينة أنطاكيا أصبحت دمشق مركز الكنيسة الانطاكية المعروفة كبطركية أنطاكيا وسائر المشرق، وتضم أبرشيات في حلب واللاذقية وحماة وحمص والوادي وطرطوس وحوران وجبل العرب والخليج العربي وعالم الاغتراب.

والمسيحيون في سوريا يبلغوا عددهم حوالي 2 مليون وتشكل طائفة الروم الأرثوذوكس الشريحة الكبرى بين شرائح المسيحيين من أرثوذوكس وموارنة وكاثوليك وأرمن وبروتوستانت، القديسان الرسولان بطرس وبولص هما مؤسسا كنيسة أنطاكيا التي أعطت العديد من الشهداء والقديسين، أمثال يوحنا فم الذهب ويوحنا الدمشقي وإغناطيوس الأنطاكي، وكانت البرية السورية مرتع الرهبان ومحط السياح حيث تأسس الأديرة ومراكز العبادة في أرجاء سوريا، مثل دير القديسة تقلا في معلولة، ودير السيدة العجائبي في صيدنايا، وكنيسة سمعان العمودي في شمال سوريا، وما زال أهل معلولة وصيدنايا يتكلمون لغة السيد المسيح؛ الآرامية، مسيحيين كانوا أم مسلمين، إلى الآن.

فالمسيحيون في سوريا يحملون وديعة إيمانهم ككنيسة متحركة في عالمنا، مخلصون لبلدهم سوريا على الرغم من تفتيت وحدتهم خلال الحروب الصليبية، حيث تدخل الغرب المسيحي وفرّق النسيج الواحد وخلق طوائف ومجموعات في كيان البيت الواحد، في اليوم يتربع العديد من رجال الدين المسيحيين لقب بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق، وبطريرك الروم الأرثوذوكس حاليًا هو يوحنا العاشر، من مواليد اللاذقية ويقع مركز البطريركية على مدحت باشا وهو معروف بالشارع المستقيم”.

إسهامات كبيرة

لعب المسيحيون العرب دورًا كبيرًا في الربط بين العالمين العربي والإسلامي في جانب، وبين الغرب المسيحي في جانبٍ آخر، فكانوا بمثابة قناة التواصل بين الجانبين وتمكنوا من تقديم صورة طيبة، خصوصًا أن شهادتهم أمام الغرب لا تبدو مجروحة لأنه يلتقون معه في الديانة، لكنهم لا ينتمون إليه بالقومية، فكان دورهم بناءً وشريفًا في كثيرٍ من المراحل، ولذلك استأنس بهم عدد من ملوك وأمراء ومشايخ العالم العربي، فعمل المسيحيون في البلاط السعودي وفي أجهزة الدولة الكويتية والإماراتية والبحرينية والقطرية والعمانية، دون أدنى التفاتٍ إلى دياناتهم، فلقد انصهر الكل في واحد ونظر المسلمون إلى المسيحيين العرب باعتبارهم شركاء في الحضارة العربية الإسلامية بقدرٍ كبيرٍ لا يمكن إنكاره، حتى أن الخفاء المسلمين في الدول المختلفة استوزروا عددًا منهم، بل كان هناك أيضا وزراء يهود خصوصًا في الدولتين العباسية والفاطمية، فتاريخ المنطقة في مجمله لا يعرف التعصب إلا بفعل فاعل أو تدخل أجنبي.

يعد إسهام المسيحيين العرب في دعم اللغة العربية أمرًا اشتغلت به الأديرة، فاحتوى بعضها كنوزًا من المخطوطات وأمهات الكتب في الفكر العربي، بل والثقافة الإسلامية، وقد ساهم المسيحيون في تمكين فصاحة اللغة وروعة البيان في القرون المنصرمة، وهناك طرفة شهيرة عن مكرم عبيد باشا، المحامي والسياسي الشهير، حين كان يترافع أمام المحكمة في إحدى القضايا الكبيرة، مسترشدًا بآيات من القرآن الكريم، فداعبه القاضي المسلم قائلًا: “أو مؤمن أنت يا مركم باشا بما تقول؟، فرد عليه: ولكنني متأكد من أن المحكمة تؤمن به”، ولقد لعب البابا الراحل شنودة الثالث دورًا عظيمًا في تأكيد عروبة الأقباط بمنطق العيش المشترك والثقافة الواحدة حتى أطلق عليه الجميع بطريرك العرب، كما كان داعمًا للقضية الفلسطينية بشكلٍ غير مسبوق.

لقد كان المسيحيون العرب في المهجر روادًا لإحياء الإحساس القومي والمضمون المشترك، الذي يجمع كل من تكون لغته الأولى هي العربية، ولا يزالون يحتفظون بالطقوس الشرقية كاملةً، وتنظم شؤونهم الكنسية ما تُعرَف في الكنائس الشرقية عامةً باسم أبرشية المغترب، وقد لعبت الرابطة القلمية في نيويورك دورًا في إحياء النهضة العربية، حيث تألفت من أدباء المهجر بهدف ضمّ قواهم وتوحيد مسعاهم للنهوض باللغة العربية وآدابها، وكان من أهم أعضاءها جبران خليل جبران ونسيب عريضة ووليم كاتسفليس وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي.

يقول الأب جان جبور، كاهن في كنيسة حنا مرقص جبيل لبنان: “الإحصائيات غير الرسمية ـ نظرًا للحروب والصراعات الحالية ـ لتواجد المسيحيين في الشرق هي إحصاءات تقريبية، ولكن لو تحدثنا عن لبنان حيث يتواجد عدد كبير من المسيحيين ورئيس الجمهورية لا بد أن يكون مسيحيًا مارونيًا، سنجد أن هناك حوالي مليونين ونصف المليون مسيحي، في سوريا هناك حوالي مليوني مسيحي، وفي العراق حوالي 3 ملايين، وفي مصر حوالي 20 مليون، وفي فلسطين حوالي 100 ألف، و50 ألف في الأردن، وهذه الأرقام في تراجع بسبب الحروب والصعوبات التي نعيشها، مما يدفع بعض المواطنين إلى الهجرة أو تغيير البلدان، لذلك أتمنى أن تتوقف كل الحروب ويعمّ السلام ويعود الناس للتعاون مع بعضهم البعض، والارتقاء بالمحبة، فالحروب والصراعات قاتلة لروح الإنسان وتهدم التاريخ البشري، وتعيد الإنسانية للوراء، لذلك لا بد أن نتجه نحو الامام وأن نضع الحروب خلفنا ونتجه صوب الرقي والنور”.

تحديات وصعوبات

تعتبر الهجرة والتهجير إحدى الملمّات التي أصابت مسيحي بلاد الشام عمومًا على مرّ التاريخ، فعندما أتت الحملات الصليبية إلى بلاد الشام اعتبرت أن العرب المسيحيين هراطقة لمجرد اتباعهم مذاهب مسيحية شرقية تختلف عن المذاهب الغربية، فاضطهدوا العرب المسيحيين أيضا، وحين احتلوا القدس في عام 99م قتلوا معظم من فيها من مسلمين ومسيحيين، وفي أعقاب حرب عام 1948م التي أفضت إلى ميلاد إسرائيل مُسِحَت عن الوجود قرى مسيحية بأكملها على يد العصابات الصهيونية، وطُرِدَ أهلها أو طُردوا ودُمِرَت كنائس اللد وطبريا وبيسان داخل إسرائيل حاليًا أو أُغلقت بسبب انعدام الوجود المسيحي فيها، كما كانت أغلبية القدس الغربية من المسيحيين الذين قامت العصابات الصهيونية بتهجيرهم وإنشاء أحياء سكنية يهودية فيها.

الأب آرام روميل حنا، كاهن كلداني في أبراشية مارتوما، ميشيغان، أمريكا: “المسيحية في العراق هي مسيحية متأصلة بدأت منذ القرن الأول الميلادي على يد الرسول مار توما، والمسيحيون هم من الشعوب الأصلية التي عاشت في بلاد ما بين النهرين، وقد بنى توما أول كنيسة بالعراق وهي كنيسة كوخي، والتي لا تزال آثارها قائمة حتى الآن.

وقد نشأت في هذه البلاد عشرات الأديرة والكثير من الكنائس، كما اشتهرت في هذه البلاد كنيسة المشرق التي امتدت من بلاد ما بين النهرين إلى الهند والصين، علمًا بان هناك آثار باللغة الآرامية الكلدانية لا تزال موجودة حتى الآن في الصين، وهناك جماعات كنسية حية حتى يومنا هذا في الهند وعددهم بالملايين ويتشاركون معنا في نفس الفلسفة والثقافة، وللمسيحية دورٌ كبير كان أبرزه في العصر العباسي حيث ترجم الرهبان الفلسفة والمعارف الغربية من اليونانية إلى العربية والآرامية، وكانت الكتب الفلسفية تملأ المكتبات العربية بفضل هذه الترجمات.

ورغم أن المسيحية قد تواجدت هنا لقرون عديدة إلا أن تاريخ الكنيسة هنا لم يخلو من اضطهادات وعثرات وعقبات، مما تسبب في حدوث تهجير ومعاناة وما شابه، ورغم ذلك استمرت المسيحية وهو ما يدلل على وجود علاقات حسنة وطيبة بين المسيحيين وبين المحيطين بهم، سواء أكانوا من المسلمين أو من الديانات الأخرى، فهناك تعددية دينية بالعراق”.

سؤال الهوية

يذكر المؤرخ الفلسطيني سامي هداوي ان نسبة تهجير العرب من القدس بلغت 37% بين المسيحيين مقابل 17% بين المسلمين، وفي تلك الفترة وُضِعَت وثيقة “نختار الحياة” التي أعدها نخبة من المفكرين واللاهوتيين المسيحيين توصيفًا للسياق الذي يعيش فيه المسيحيون في الشرق الأوسط، وعرضت التحديات التي يواجهونها وطرحت سؤال الهوية على مسيحي الشرق وهو سؤال لطالما أرّقهم في عصر العولمة بعدما توزعت انتماءاتهم ومشاربهم لهويات عدة.

ففي مصر ينظر الكثير من الأقباط إلى المكون الهوياتي العربي في ثقافتهم بقلق يصل إلى حد العداء، لأنها فرضت عليهم في محاولة لطمث هويتهم وهو الأمر الذي ظهرت له متوازيات في بلاد الشام، حيث تزيد فكرة الثقافة السريانية أو الفينيقية، بينما شددت الوثيقة على الثقافة العربية كمكون أصيل في هوية ووعي المسيحيين من سكان المنطقة، مؤكدةً على الدور البارز الذي لعبه المسيحيون في الحضارة الإسلامية حيث عاشت مسيحيتهم إلى جوار الإسلام لقرونٍ طويلة.

وقد أشارت الوثيقة أيضا إلى ما جرى في السنوات الأخيرة من تغييرات كبرى شهدتها منطقة الشرق الأوسط التي عجت بالحروب بالوكالة وإعادة إنتاج العصبيات الطائفية والمذهبية وهو الأمر الذي عمّق شعور المسيحيين بالأقلية مقابل أكثرية مسلمة، وهو ما يطعن أنموذجة التنوع والتعددية، مع لفت النظر إلى فشل مشروع النهضة العربية الذي ساهم فيه المسيحيون، وهو الأمر الذي نتج عنه تأرجح المجتمعات العربية بين الأصالة والحداثة، واعتبرت الوثيقة أيضا أن زيادة الهجرات بين المسيحيين في الشرق يأتي نتيجة لصعود الحركات ذات الطابع العنيف، بالإضافة إلى غياب أنظمة ديمقراطية حقيقية تحمي الحقوق والحريات، مما يدفع الفرد إلى الاحتماء بالطائفة وهو ما يؤدي إلى تضخم الكتلة الكنسية على حساب الفرد.

تأثيرات وتفاعلات

يقول د. هاني بواردي، الأستاذ المشارك في التاريخ والدراسات العربية الأمريكية في جامعة ميشيغان بمدينة ديربورن: “تاريخ العرب المسيحيين بدأ مع انتشار المسيحيين على أيدي الرسل، أي قبل الإسلام، عبر فترات زمنية مختلفة ويشمل تأثيرات متنوعة نتيجة للتفاعلات مع الثقافات المجاورة والاحداث التاريخية المتغيرة، يعتبر وجود المسيحية في منطقة العرب قبل الإسلام جزءًا من السياق الديني الواسع في شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام وشمال أفريقيا.

فالمسيحية إذن هي ديانة شرقية، وأول من اعتنق المسيحية هم من سلالة النبطيين، وفي اعتقاد الكثير من الباحثين؛ من بينهم امرؤ القيس وقبيلة رولا وقبيلة الكندي وغيرهم، وتعامل الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) مع بعض هؤلاء المسيحيين خلال حياته، وكان للإمبراطورية الرومانية البيزنطية تأثيرًا كبيرًا على الثقافة المسيحية في المنطقة، وتطورت الكنائس والرهبة على أيديهم وكان هناك تفاعل ثقافي وديني مع العالم الروماني والبيزنطي، وفي القرون الوسطى في بعض المناطق العربية أقيمت كنائس وأديرة وأنشئت عدة مدارس ومراكز للتعليم وتطورت المسيحية في بعض المناطق لتصبح جزءًا حيويًا من الهوية، وبدأ اللاهوت العربي في التطور وظهرت ترجمات للنصوص المقدسة في اللغة العربية.

كما شهدت المنطقة أحداثًا تاريخية هامة خلال تلك الفترة، مثل الفتوحات الإسلامية التي كان لها تأثيرًا كبيرًا على المسيحية في المنطقة، وأسفرت عن تغييرات في التوزيع الدين، كما حارب العرب المسيحيون مع العرب المسلمون جنبًا إلى جنب ضد الرومان في فتوحات الشام، ويشير هذا إلى التنوع المسيحي في العالم العربي قبل وبعد الإسلام وكيف أسهمت العديد من العناصر في تشكيل هويتهم الثقافية والدينية.

وجديرٌ بالذكر فإن ثالث أقدم كنيسة في العالم هي كنيسة القديس برفيريوس في غزة والتي دمرها الكيان الصهيوني مؤخرًا خلال عدوانه على غزة ضمن التطهير العرقي والقتل الجماعي، وهذه شخصيات بارزة اشتركت في حركات تطور القومية العربية؛ إبراهيم اليازجي وهو من مؤسسي الفكر العربي المعاصر، وبطرس البستاني وهو من ألف معجم المفردات والمعاني، محيط المحيط وقطر المحيط، وهنالك أيضا ميخائيل عفلق وهو مؤسس حزب البعث العربي الأصلي الذي لعب دورًا كبيرًا في تطور القومية العربية، وأسس جورج حبش وهو مسيحي أرثوذكسي فلسطيني، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأسس نايف حواتمة، وهو أرثوذكسي أردني، الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وهاتان من ضمن منظمة التحرير الفلسطينية.

وهناك أيضا تشارلز مالك، وهو فيلسوف دبلوماسي لبناني وهو من صاغ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وشارك في تشكيل السياسة اللبنانية، وكميل شمعون السياسي اللبناني الذي شغل منصب رئيس لبنان وكان مرتبطًا بالقومية اللبنانية، وجورجي زيدان وهو أرثوذكسي سوري ومؤلف كتاب حكايات تاريخ الإسلام ومحرر مجلة الهلال في مصر، ومن المهم أن نلاحظ أن القومية العربية هي حركة سياسية متنوعة ومعقدة مع مشاركين من خلفيات كثيرة، والأفراد المذكورين أعلاه هم أمثلة على المسيحيين الذين شاركوا في حركات وطنية وثقافية في العالم العربي”.

أرض نشأة المسيحية

رغم هذه التحديات، يبقى مسيحيو الشرق يشكلون مكونًا هامًا في الفسيفساء الديموغرافية لمنطقة الشرق الأوسط، والذي لا يمكن أن يزدهر دون تناغم جميع قطعه المختلفة على امتداد الرقعة الجغرافية لهذه المنطقة، يقول المطران عطاالله حنا، رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس، بطريركية الروم الأرثوذكس بالقدس:”لكم ألف تحية من القدس، وكذلك تقدير ووفاء على هذا البرنامج الإذاعي الذي يتحدث عن عراقة الحضور المسيحي في هذا المشرق، ونحن في فلسطين المسيحيون في بلادنا المقدسة ليسوا جالية أو أقلية أو ضيوفًا أوتي بهم من هنا أو من هناك، فنحن أصيلون في انتماءنا لفلسطين.

وكما تعلمون فإن المسيحية انطلقت من فلسطين، والمسيحيون الذين يستعدون لاستقبال عد الميلاد المجيد يتذكرون دومًا ان الميلاد تمّ في فلسطين، وتحديدًا في بيت لحم، كما أن القيامة في القدس وكل الأعمال الخلاصية المرتبطة بالمسيحية تمت في هذه البقعة المقدسة من العالم، ولذلك وجب علينا أن نؤكد أولًا وقبل كل شيء بأن المسيحية في فلسطين ليست بضاعةً مستوردة من الغرب كما نستورد اليوم كل التقنيات والتكنولوجيات، بل هي أصيلة في هذا المشرق ولها جذور عميقة في تربة هذه الأرض المقدسة، والمسيحيون الفلسطينيون اليوم اصبحوا قلة في عددهم، لا تتجاوز نسبتهم الـ 1% بسبب النكبات والنكسات والظروف السياسية التي تعرض لها الشعب الفلسطيني بكافة مكوناته من مسلمين ومسيحيين.

فالقضية الفلسطينية هي قضية كل الشعب الفلسطيني، المسجد الأقصى بتعرض لمؤامرات ومخططات مبيّتة لاستهدافه، ومن يستهدفونه هم أنفسهم من يستهدفون مقدساتنا وأوقافنا المسيحية، فهناك مخطط احتلالي للقدس من باب جديد إلى باب الخليل وصولًا إلى الحي الآرمني، تراجع نسبتنا كمسيحيين في بلادنا بفلسطين ـ الأرض التي انطلقت منها المسيحية ـ تعتبر مأساة في حد ذاتها، نحن قلة في عددنا ولكننا لسنا أقلية، فنحن نرفض بأن يصفنا أحد بأننا أقليات في أوطاننا، سواء في فلسطين أو الأوطان المحيطة بنا، لا سيما وأن المسيحية هي عريقة وجذورها عميقة في تربة هذه الأرض المقدسة، وأؤكد مجددًا على أننا بالرغم من كل التحديات والمؤامرات باقون وصامدون ومرابطون في وطننا وفي قدسنا، وسنظل ندافع عن مقدساتنا التي هي جزء أصيل من تاريخنا وتراثنا وعراقة وجودنا في هذه البقعة المقدسة من العالم”.

تعليق
Exit mobile version