تقارير

هل تشعل معاهدة الصواريخ النووية حربًا عالمية جديدة؟

إعداد وتحرير: علي البلهاسي

بين الحين والآخر يفاجئ الرئيس الأميركي دونالد ترامب العالم بقرارات صادمة، لعل أبرزها تلك التي تتعلق بالانسحاب من منظمات واتفاقيات دولية كانت الولايات المتحدة طرفًا فيها لسنوات طويلة.

ومنذ توليه الرئاسة أعلنت إدارة ترامب انسحابها من منظمة اليونسكو ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بحجة تحيزهما ضد إسرائيل، ثم أعلن ترامب انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ، ومن اتفاقية الملف النووي الإيراني، بالإضافة لتهديدات متكررة بالانسحاب من منظمة التجارة العالمية.

لكن أخطر قرارات الانسحاب التي قال ترامب إنه يعتزم اتخاذها هو قرار الانسحاب من معاهدة التخلص من الصواريخ النووية المتوسطة والقصيرة المدى التي تم إبرامها مع روسيا خلال الحرب الباردة قبل 30 عامًا.

وأثارت هذه الخطوة قلق روسيا والمجتمع الدولي من إمكانية نشوب حرب باردة جديدة في أعقاب هذا القرار، لاسيما وأنه أسفر عن انقسام العالم إلى معسكرين، الأول يدعم ترامب وعلى رأسه بريطانيا، والثاني يحذر من تداعيات هذا القرار وفى مقدمته روسيا والصين.

تاريخ المعاهدة

تم التوصل إلى معاهدة التخلص من الصواريخ النووية المتوسطة والقصيرة المدى بعد نشر موسكو صواريخ باليستية متوسطة المدى في السبعينيات، ونشر أمريكا أنظمة أسلحة متوسطة المدى في أوروبا الغربية عام 1979.

ففي سبعينيات القرن الماضي، وخلال الحرب الباردة (1945 إلى 1989) تسببت صواريخ “أس أس 20” المتوسطة المتطورة التي نشرتها روسيا في إثارة مخاوف الغرب. حيث يصل مدى هذه الصواريخ إلى 5000 كيلومتر، وتتمتع بالدقة والمرونة، وكانت قادرة على استهداف أوروبا الغربية وشمال أفريقيا والشرق الأوسط، ويمكن أن تصل حتى ولاية ألاسكا الأميركية.

وفي عام 1979 كلف حلف الناتو مجموعة استشارية بوضع مبادئ لضبط عملية التسلح في المستقبل فيما يتعلق بالصواريخ القصيرة ومتوسطة المدى. وفي تشرين الثاني/نوفمبر من العام ذاته، تبنى الحلف إستراتيجية لمواجهة الصواريخ الروسية تشمل بدء مفاوضات بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة لخفض هذه الصواريخ إلى أقل مستوى ممكن، وفي الوقت نفسه نشر منظومة صواريخ كروز وأخرى باليستية أميركية في أوروبا الغربية.

وفي البداية رفض الاتحاد السوفييتي الدخول في محادثات من هذا النوع، لكنه رضخ في النهاية. وفي عام 1981 قدم الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريجان مبادرة تتضمن تخلي واشنطن عن نشر صواريخها مقابل تخلي موسكو عن عدد كبير من صواريخها المتوسطة.

وتوقفت المحادثات عام 1983 بسبب التعنت الروسي، واستمرت الولايات المتحدة في نشر صواريخها في ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، ثم اتفق البلدان على استئناف المفاوضات عام 1985.

وبعد تقديم مقترحات مختلفة، تم التوصل إلى المعاهدة المشار إليها والتي تم توقيعها في واشنطن في الثامن من كانون الأول/ديسمبر عام 1987 خلال قمة جمعت الرئيس ريجان والزعيم السوفييتي ميخائيل جورباتشوف، وصدق عليها مجلس الشيوخ الأمريكي في 27 مايو 1988، ودخلت حيز التنفيذ أول يونيو من نفس العام.

بنود المعاهدة

نصت المعاهدة التي تضمنت مذكرة تفاهم وبروتوكول متعلق بالتفتيش على تخلص الجانبين من الصواريخ القصيرة ومتوسط المدى خلال ثلاث سنوات من دخولها حيز التنفيذ (حزيران/يونيو عام 1988). وبحلول الأول من حزيران/يونيو عام 1991، كان الطرفان قد قاما بتدمير 2692 صاروخًا، وتبع ذلك عمليات تفتيش للمواقع للتحقق من ذلك.

وألغت المعاهدة فئة كاملة من الصواريخ الأرضية الباليستية وصواريخ كروز التي تتراوح مسافة إطلاقها بين 550 إلى 5500 كيلومتر، ووضعت حدًا للأزمة التي اندلعت في الثمانينات بسبب نشر الاتحاد السوفيتي صواريخ إس.إس-20 النووية، والتي يمكن أن تستهدف عواصم أوروبا الغربية.

وتجدر الإشارة إلى أن المعاهدة غير محددة المدة، ومع ذلك يحق لكل طرف المعاهدة فسخها بعد تقديم أدلة مقنعة تثبت ضرورة الخروج منها.

خلافات حول المعاهدة

ظلت المعاهدة سارية دون مشاكل حتى أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2007 أنها لم تعد تخدم المصالح الروسية، وجاء ذلك بعد انسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة المناهضة للصواريخ الباليستية في 2002.

وفي عام 2014، نشرت BBC اتهاما من الولايات المتحدة لموسكو بانتهاك المعاهدة وذلك بعدما أجرت موسكو اختبارات لتطوير الصواريخ كروز أرض جو، على الرغم من أن الاتهام الأمريكي وقتها لم يأتي بأي تفاصيل حول نوعية التجارب. واعتبرت الولايات المتحدة أن هذه الصواريخ تؤثر على الصواريخ الهجومية لحلف الناتو. واتهم أوباما روسيا وقتها بانتهاك المعاهدة لكنه لم ينسحب منها بعد مخاوف أوروبية من هذه الخطوة.

وفى يناير 2015 حذرت صحيفة “الجارديان” من أن أمريكا وروسيا في خطر العودة لمرحلة الحرب الباردة، وذلك بعدما وجهت أمريكا اتهامًا أخر لموسكو بالعمل على تطوير صواريخ كروز ذات القدرات النووية.

كذلك كان تقرير الناتو السنوي لعام 2015 يقول إن “روسيا تعمل على تطوير قدراتها العسكرية ككل، ووصلت لمستويات لم تحدث من قبل سوى في ذروة الحرب الباردة”.

ومنذ نحو عامين، زادت شكاوى الإدارة الأميركية بقيادة ترامب من قيام روسيا بانتهاك المعاهدة. وجاء ذلك بعد نشر موسكو منظومة صواريخ تطلق من الأرض تسمى (Novator 9M729)، وهي منظومة صواريخ من طراز 9 إم-729 يتجاوز مداها 500 كيلومتر، وتعرف لدى قوات حلف شمال الأطلسي (ناتو) باسم SSC-8.

ولطالما نفت روسيا وجود هذه الصواريخ من الأساس، لكنها عادت واعترفت بوجودها مؤكدة أنها لا تشكل انتهاكاً لمعاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى.

وأكدت روسيا أكثر من مرة أنه ليس لدى أمريكا أي أسس للقول بأن روسيا تنتهك هذه المعاهدة، مشيرة إلى أنها تعتقد أن وجود المعاهدة ح يعرقل النية الأمريكية لتحقيق سيطرتها الكاملة في المجال العسكري.

وقال سكرتير مجلس الأمن الروسي، نيقولاي باتروشيف، إن الاتهامات الأمريكية لروسيا بانتهاك المعاهدة هي محاولة لصرف نظر المجتمع الدولي عن حقيقة الانتهاكات التي ترتكبها الولايات المتحدة ذاتها»، وفقا لوكالة أنباء «سبوتنيك» الروسية.

وتتركز اتهامات موسكو للولايات المتحدة بالدرجة الأولى على نشر منظومة الدرع الصاروخية العالمية، حيث عبرت القيادة السياسية والعسكرية الروسية عن قناعتها بأن الأمريكيين يمكن أن يستخدموا منظومات الصواريخ المضادة للجو التي تم نشرها في أوروبا لإطلاق الصواريخ المتوسطة المدى ” BGM-109 ” (توماهوك). ويعتقد الخبراء في وزارة الدفاع الروسية أيضًا أن البنتاجون يستخدم ذخائر محظورة بمثابة أهداف تدريبية لاختبار الصواريخ المضادة.

بينما تُصرّ الولايات المتحدة على أن روسيا تطور وتنشر نظامًا لإطلاق الصواريخ من منصات أرضية، مما قد يتيح لها شن هجوم نووي على أوروبا دون سابق إنذار. وترى إدارة الرئيس دونالد ترامب أن أنشطة وسياسات روسيا قد تؤدي إلى حدوث صراع في أوروبا لا يمكن السيطرة عليه، وأن موسكو يمكن أن تستخدم السلاح النووي في هذه القارة بهدف التأثير على حلف الناتو والولايات المتحدة.

التهديد الأمريكي بالانسحاب

في الرابع من أكتوبر الماضي لمحت الولايات المتحدة إلى أنها قد تنسحب من المعاهدة التي تم إبرامها قبل 30 عامًا خلال الحرب الباردة، معللة ذلك باستمرار روسيا في “انتهاك” هذا الاتفاق.

حيث صرّح السفير الأميركي إلى مؤتمر الأمم المتحدة لنزع الأسلحة “روبرت وود” بأن “هذا الوضع لا يُحتمل وعلينا اتخاذ تدابير لمواجهة هذا الانتهاك المستمرّ لهذه المعاهدة المهمة”. وأضاف: “لا أعرف إلى متى يمكن أن نستمرّ في احترام التزاماتنا التي تنص عليها هذه المعاهدة في حين تنتهكها روسيا بشكل صارخ وعلني”.

وفي 20 أكتوبر الماضي أعلن الرئيس دونالد ترامب أن الولايات المتحدة ستنسحب من المعاهدة، وهو القرار الذي أثار العديد من المخاوف، خاصة وأنها المرة الأولى التي ستنسحب فيها الولايات المتحدة من معاهدة كبيرة لضبط التسلح، منذ انسحابها عام 2002 من معاهدة الحد من الصواريخ الباليسيتة خلال ولاية الرئيس جورج بوش الابن.

وقال ترامب للصحفيين بعد تجمع في نيفادا إن “روسيا لم تلتزم مع الأسف بالاتفاقية، ولذلك سننهي هذه الاتفاقية وسننسحب منها”. وتساءل ترامب: “لا أعرف لماذا لم يتفاوض الرئيس أوباما بشأن هذه المعاهدة أو ينسحب منها.. إنهم ينتهكون المعاهدة منذ عدة سنوات”.

وأعلن ترامب أن الولايات المتحدة ستعزّز ترسانتها النووية، قائلاً: “لدينا أموال لا توجد عند أي أحد آخر، وسنعزّز ترسانتنا، ولن نتوقّف، وهذا تهديد إلى أي جهة تريدون، ويشمل الصين، وأيضاً روسيا وأي جهة أخرى تريد أن تلعب هذه اللعبة”، مبيناً أن الولايات المتحدة ستطوّر هذه الأسلحة ما لم توافق روسيا والصين على “التوقّف عن ذلك”.

وأكد وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس أن عودة روسيا إلى الالتزام بتعهداتها هو الحل الأمثل للخلاف حول المعاهدة. وقال ماتيس: “كلما تقدمنا إلى الأمام، سنراقب صدور أي إشارات تؤكد رغبة روسيا في العودة إلى تنفيذ التزاماتها. هذا يمثل أفضل حل للمشكلة، وهو ما نريده”.

وتابع: “يبدو أننا نقترب من النهاية. لا يعقل أن يكون أحد الطرفين الموقعين على المعاهدة ينتهكها، في حين يبقى الآخر ملتزما بها”. وجدد ماتيس الادعاء بأن “الانتهاكات الروسية المستمرة” تجعل الجانب الأمريكي الجهة الوحيدة الملتزمة بالمعاهدة، مؤكدا أن هذا الاستنتاج لم يعد موضع خلاف بين بلاده وحلفائها الأوروبيين.

أسباب الانسحاب

برر الرئيس ترامب إعلانه الانسحاب من المعاهدة بأنها تسمح لروسيا بتصنيع أسلحة متطورة جديدة، بينما لا تقوم الولايات المتحدة بذلك. لكن مراقبون يرون أن هناك أسباب أخرى عديدة لهذا القرار من بينها أن موقف ترامب يأتي متسقًا مع النزعة الأحادية والعسكرة المتصاعدة للسياسة الخارجية الأمريكية، بالإضافة إلى تراجع تأثير مصالح الحلفاء الأوروبيين على قرارات الإدارة الأمريكية في مقابل تصاعد تأثير لوبي السلاح على توجهاتها الخارجية.

ويقول محللون إن الإدارة الأمريكية تهدف من هذا القرار إلى مواجهة توازن التهديد بين أمريكا وروسيا، فنظراً لوجود قواعد عسكرية أمريكية في الجوار وبالقرب من روسيا، فإن رفع حظر إنتاج الصواريخ متوسطة المدى سيعتبر تهديداً جديداً لموسكو، لأنه لا يمكنها في الوقت الراهن استهداف الأراضي الأمريكية بسبب بُعدها، في المقابل يمكن لواشنطن بسهولة استهداف التراب الروسي بأكمله، وهذا يعني وجود توازن بين تهديد الأسلحة والأمن لمصلحة أمريكا وبنفس الوقت يكون ضاراً لروسيا.

كما تسعى إدارة ترامب إلى ممارسة ضغوط متزايدة على روسيا لتخفيض اختباراتها الصاروخية، والحدّ من إنتاجها للأسلحة الحديثة والمتطورة، لاسيما بعد قيام موسكو بالترويج لعددٍ من صواريخها العملاقة خلال العروض العسكرية.

كما يعود القرار في جوهره إلى تصاعد حدة التنافس الدولي بين أمريكا وروسيا، والاعتقاد الأمريكي أن الرئيس بوتين بدأ يستعيد قوة روسيا العظمى على الساحة الدولية، وهو ما لا تريده أمريكا.

ضغوط الصقور

ويرى مراقبون أن هناك ضغوطا داخلية على ترامب من جانب صقور الجمهوريين غير الراضين عن المعاهدة.

وعلى رأس هؤلاء جون بولتون، مستشار الرئيس للأمن القومي، المعروف بمعارضته لأي تقارب مع موسكو، ورفض التفاوض معها حتى لو أتى ذلك على حساب زيادة احتمالات المواجهة النووية بين الدولتين. فضلًا عن تأييده لتوسيع العقوبات على موسكو التي تتهمها واشنطن بالتدخل في الانتخابات الأميركية.

وأكدت صحيفة “الجارديان” البريطانية في أحد تقاريرها أن “بولتون” مارس ضغوطًا على “ترامب” من أجل الانسحاب من المعاهدة، حتى يصبح بإمكان الجانب الأمريكي تهديد العمق الروسي عبر نشر قواعد للصواريخ بالقرب من الحدود الروسية من دون اعتبار ذلك عملًا محظورًا.

كما يعيق بولتون المفاوضات حول توسيع معاهدة “ستارت الجديدة” للحدّ من الأسلحة الإستراتيجية الهجومية، والتي ينتهي العمل بها في 2021 وترغب روسيا في تمديدها، بحسب الصحيفة.

وكان بولتون في مقدمة المطالبين بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران لمنعها من امتلاك سلاح نووي، كما لم يتردد الرجل في إعلان اقتناعه بوجوب أن تشن واشنطن ضربة عسكرية على كوريا الشمالية بدلًا من خيار التفاوض.

واعتبر بولتون القول إن الانسحاب المحتمل للولايات المتحدة من المعاهدة يمكن أن يؤدي إلى سباق تسلح جديد أو جعل العالم أكثر خطورة، هو “مبالغة”. وقال في حوار مع “بي بي سي”: “لقد كنت هنا في موسكو منذ 17 عاما أثناء خروج الولايات المتحدة من اتفاق الدرع الصاروخي، ولقد سمعنا الكثير من هذه التصريحات”.

وكان بولتون قد زار روسيا مؤخرًا وتحدث عن استحالة جعل المعاهدة متعدّدة الأطراف، من خلال ضم الصين أو إيران إليها. وقال في تصريح لصحيفة “كوميرسانت” الروسية: “إن كلاً من الصين وإيران وكوريا الديمقراطية تعزّز قدراتها بطرق كانت ستمثّل انتهاكاً للمعاهدة، لو كانت أطرافاً موقّعة عليها”، وأضاف: “قبل 15 عامًا ربما كانت هناك فرص لتوسيع المعاهدة، وجعلها متعدّدة الأطراف، لكن هذا مستحيل الآن من الناحية العملية”، حسب قوله.

مخاوف من الصين

وعلى الرغم من تحول هذه المعاهدة إلى متعددة الأطراف بعد تفكك الاتحاد السوفيتي؛ إلا أنها لا تلزم إلا الدول التي كانت تشكل جزءًا من الاتحاد السوفيتي، وبالتالي فإن القوى الصاعدة في النظام الدولي مثل الصين ليست ملزمة بهذه الاتفاقية. وذكرت مجلة “الإيكونوميست” أن 95% من الصواريخ الصينية تندرج ضمن نطاق الصواريخ المحظورة في معاهدة الصواريخ المتوسطة.

وفي أكتوبر الماضي أشار ترامب إلى تخوفه من تطوير الصين قدراتها الصاروخية. وأكد ترامب أن الولايات المتحدة ستطور هذه الأسلحة ما لم توافق روسيا والصين على وقف تطويرها.

وكالة بلومبرج التي تعارض الرئيس ترامب، قالت صراحة في تقرير لها إن الرئيس الأمريكي محق في الانسحاب من المعاهدة النووية لسببين، الأول هو الاختراقات الروسية والثاني هو أن الصين ليست جزء من المعاهدة أصلا.

لكن خبراء يؤكدون أنه إذا كان الاهتمام الأمريكي متوجها للصين فهذا يعنى أن موسكو ستكون حرة في إجراء ما تريد من تجارب خاصة وأن واشنطن لن تكون جزء من المعاهدة ولا يمكنها انتقاد روسيا بعدها.

وترى الصين أنه من “الخطأ” أن تشير الولايات المتحدة إلى بكين كسبب للانسحاب من المعاهدة الموقعة مع موسكو. وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، هوا تشون يينغ، إن “الانسحاب من المعاهدة ولوم الصين هو خطأ تام. نأمل في أن تحظى الأطراف المعنية بالنتيجة التي تم التوصل إليها بشق الأنفس، وأن تتعامل مع القضايا المتعلقة بالمعاهدة من خلال الحوار والتشاور، وأن تعمل بحكمة بشأن الانسحاب من المعاهدة”.

واعتبرت مجلة “ناشيونال إنترست” الأمريكية أن خروج واشنطن المحتمل من المعاهدة سيكون كابوسًا للصين. وقالت المجلة في تقرير لها، إن ذلك سيمكن الجيش الأمريكي من منافسة الصين في بناء قدرات صاروخية، كانت محظورة، وفقا للاتفاقية.

ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن مسئولين أميركيين ودبلوماسيين غربيين قولهم إن الولايات المتحدة تريد الانسحاب من المعاهدة لمواجهة زيادة النفوذ العسكري الصيني في منطقة المحيط الهادئ، فالصين ليست طرفا في المعاهدة، لذا هي غير ملتزمة بعدم تطوير صواريخ متوسطة المدى.

وأضافت الصحيفة أن وزارة الدفاع الأميركية تعمل على تطوير أسلحة نووية جديدة لمواجهة النفوذ الصيني، وهذا الأمر سيحتاج إلى سنوات، وفي الوقت الحالي تعمل على تطوير أسلحتها الحالية، ومن بينها صواريخ توماهوك، ومن المتوقع نشر بعضها في آسيا، بحسب مسئولين أميركيين.

وقال كريستوفر جونسون، عميل وكالة الاستخبارات الأمريكية “سي آي إيه” السابق، لمجلة “ذي إيكونوميست”: “إن امتلاك قدرات عسكرية تمكن أمريكا من الوصول إلى قلب الأراضي الصينية يمثل أهمية كبيرة بالنسبة للجيش الأمريكي في أي مواجهة مع الجيش الصيني”.

ووفقًا لمحللين فإن الانسحاب من المعاهدة قد يدفع الصين إلى تطوير أسلحة نووية متوسطة المدى دون قيود، لاسيما أنها لم توقع على الاتفاق، مما سيؤدي إلى تبعات ضخمة على السياسة الدفاعية الأميركية في آسيا، لاسيما الصين التي يخوض ترامب ضدها حربًا تجارية.

روسيا تهدد بالرد

الرد الروسي على اعتزام الولايات المتحدة من المعاهدة جاء عنيفًا هذه المرة، حيث قال دميتري بيسكوف، المتحدث باسم الرئاسة الروسية (الكرملين)، إن بلاده ستضطر لاتخاذ إجراءات لتحقيق التوازن الاستراتيجي في حال انسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة.

وأكد أن موسكو لم تنتهك أبدًا بنود هذه المعاهدة، على عكس واشنطن التي خرقتها مرارًا، موضحا أن خرق بنود المعاهدة من شأنه أن يجبر روسيا على اتخاذ تدابير لضمان أمنها. وتابع قائلاً: “إنها نية خطيرة للغاية، وإعلان عن نية الدخول في سباق تسلح، الأمر الذي سيجعل العالم أكثر خطرًا. أما نحن فسنهتم بالمصالح الروسية والأمن القومي لروسيا”.

وأوضح بيسكوف أن المعاهدة لها إطار ضيّق، لكن موسكو لا ترحّب بإنهائها دون خطط جديدة. وحول ما إذا كان الجانب الروسي يفضّل عقد اتفاقية جديدة على الاتفاقية القائمة، قال بيسكوف: إن المهم فهم ما إذا كان ذلك ممكناً أم غير مكن، لأن التخلي عن الوثيقة والحديث فيما بعد عن فرضيات واحتمالات عابرة لعقد اتفاقية جديدة هو موقف خطر جداً.

وأضاف أن الرئيس فلاديمير بوتين أعرب عن استعداد روسيا للحوار مع الولايات المتحدة بشأن المعاهدة لكنه أكد أيضًا أن الرد الروسي على انسحاب واشنطن من هذه المعاهدة سيكون حتميًا.

وكان بوتن قد هدد بالرد إذا انسحبت الولايات المتحدة من المعاهدة، وناقش بوتن السبل المحتملة للرد الروسي مع كبار مسئولي وزارة الدفاع الروسية، وقال إن الكرملين على استعداد لمناقشة المعاهدة مع واشنطن.

فيما أكد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، أن بلاده لم تتلق إخطارًا رسميا من الولايات المتحدة بانسحابها من المعاهدة، وقال: “لقد أعلنا عن موقفنا مرارًا بشأن نوايا الولايات المتحدة. ونعتقد أن هذه الخطوة ستكون متهورة للغاية”. وأضاف أن أي إجراء في هذا المجال سيواجه بإجراءات مماثلة، مؤكدا أن المعاهدة مهمة للأمن العالمي في أجواء سباق التسلح، ومن أجل الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي.

فيما هدد مشرع روسي بارز بنشر بلاده صواريخ على حدود الدول الحليفة معها إذا ما أقدمت الولايات المتحدة على نصب أسلحة مشابهة في أوروبا. ونقلت شبكة (إيه.بي.سي.نيوز) الأمريكية عن رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ بالبرلمان الروسي كونستانتين كوساشيف قوله إن اعتزام الولايات المتحدة الخروج من المعاهدة يمكن أن يقود إلى نشر صواريخ في أوروبا كانت محظورة بموجب المعاهدة.

وأضاف أن بلاده من الممكن لها أن تستهدف الصواريخ الأمريكية بأسلحتها إذا ما حدث مثل هذا النصب للأسلحة، مشيرا إلى أن روسيا قد ترد على مثل هذه الخطوة بنشر صواريخ مشابهة بالقرب من حلفائها “وفى حالة الضرورة، على أراضى حلفائنا”.

ولم يوضح كوساشيف بالضبط أسماء الدول التي يمكنها استضافة الصواريخ الروسية، إلا أن روسيا تتمتع بعلاقات عسكرية قوية مع جيرانها الغربيين مثل روسيا البيضاء التي تحاذى دولاً أعضاء في حلف الناتو مثل بولندا وليتوانيا.

بينما اعتبر الزعيم السوفيتي السابق ميخائيل جورباتشوف انسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة أمرًا غير مقبول، مؤكدًا أن توقيع المعاهدة كان “انتصارًا عظيمًا”.

ودعا جورباتشوف إلى مناقشة القضية في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، لأنها تهم العالم بأسره، وأن على المؤسسات الدولية أن تنخرط في هذه العملية، مشددًا على أنه “من غير الجائز إنعاش زيادة الترسانات النووية من جديد”. وأشار إلى أن الفرص للحفاظ على المعاهدة لا تزال قائمة، ويجب أن يحاول الجانبان الروسي والأمريكي “إيقاف هذه العملية الهدامة”.

ويرى مراقبون أنه رغم أن الرد الروسي يبدو عنيفًا في ظاهره، إلا أن روسيا لم تنتقد واشنطن بالحدة المتوقعة، حيث ترى العديد من المواقع الأمريكية وحتى المعارضة لترامب أن موسكو لم تكن تريد استمرار المعاهدة.

وقالت مجلة “نيوزويك” الأمريكية إن روسيا كانت من البداية ترغب في قتل هذه المعاهدة، وأن موسكو كانت تنتهك الاتفاقية منذ سنوات.

أوروبا تترقب

بحسب صحيفة “فاينانشال تايمز” فإن الإعلان الأمريكي باعتزام الانسحاب من معاهدة الأسلحة النووية مع روسيا لم يلق تأييدًا من جانب الناتو أو الاتحاد الأوروبي، بينما كانت بريطانيا فقط هي المؤيدة لواشنطن، حيث قال وزير الدفاع البريطاني جافين وليامسون إن بلاده تقف بحزم مطلق مع الولايات المتحدة في هذا الأمر.

واعتبر وليامسون أن انسحاب أمريكا “رسالة واضحة مفادها أن روسيا تحتاج إلى احترام التزامات المعاهدة التي وقعتها”.

لكن الاتحاد الأوروبي دعا الولايات المتحدة لتقييم سلبيات الخروج من المعاهدة وطلب من روسيا الالتزام بها. وقالت وزيرة الدولة النمساوية كارولين إدستاستلر، في بيان افتتاح جلسة مناقشة الأمن في أوروبا ومعاهدة الصواريخ متوسطة المدى: “التخلي عن هذه المعاهدة لن يفيد أحدًا، لقد كانت حجر الأساس في التخلص من الأسلحة النووية، وهناك مسؤولية موجهة إلى روسيا وأمريكا للبقاء في عالم خالي من الأسلحة النووية”.

فيما شددت الممثلة العليا للأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيدريكا موجيرينى، على أن المعاهدة يجب أن تستمر وتتوسع؛ نظرًا لأهميتها لأمن أوروبا والمنطقة ككل.

وقالت موجيريني: “إنني قلقة جدًا بشأن هذه المعاهدة نظرًا لأهميتها”، مشيرة إلى أن الاتفاقية يجب أن تُحترم من الطرفين، وأن الطريق الصحيح هو الاستمرار بالمعاهدة وتوسيعها بدلًا من إبطالها.

من جانبها حاولت الولايات المتحدة طمأنة أوروبا، حيث أعلن مسئول رفيع المستوى أنه “لا خطط” لدى الولايات المتحدة لنشر صواريخ جديدة في أوروبا بالرغم من إعلانها أنها ستنسحب من معاهدة الحد من الأسلحة النووية”. لكن المسئول لم يستبعد احتمال نشر أسلحة في المستقبل.

وقال وزير الدفاع الأمريكي، جيمس ماتيس، إنّ الولايات المتحدة تتشاور مع حلفائها الأوروبيين بشأن المعاهدة، في الوقت الذي حثت فيه الدول الأعضاء في حلف الناتو واشنطن على محاولة دفع روسيا لاحترام المعاهدة، بدلًا من انسحاب واشنطن منها.

الخاسر الأكبر

ويؤكد الخبراء أن المتضرر الأكبر من انسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة، هي الدول الأوروبية، لأن الصورايخ المتوسطة والقصيرة المدى يمكن لها أن تصل إلى برلين وباريس ولندن وليس إلى واشنطن ونيويورك، وإذا بدأ الأمريكان بسباق تسلح فسوف ينشرون الصواريخ في أوروبا بدون إذن. فقبل المعاهدة كانت هناك 60 ألف من  الصواريخ النووية موجودة في أوروبا، وبعد المعاهدة بقي منها 15 ألف صاروخًا، وفي حال تم إلغاء هذا الاتفاق فستعاود الصواريخ الأمريكية الظهور في دول مثل رومانيا وبولندا، ولا شك أن عودة هذه الصواريخ إلى أوروبا ستؤثر ليس فقط على الأمن الأوروبي، بل وعلى الأمن العالمي.

كما أن الصواريخ الباليستية الموجهة من قاعدة دومباروفسكي في جنوبي روسيا بإمكانها ضرب غالبية العواصم الأوروبية، ومن الطبيعي أن تستهدف روسيا أي دولة ينطلق منها اعتداء أمريكي، مما سيُجبر بعض الدول الأوروبية على تحسين علاقاتها مع روسيا حفاظًا على أمنها، وهو ما سيؤدي إلى تحوّل الأوضاع لصالح روسيا المحاصرة أوروبيًّا بعد أزمة أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم.

ولعل التزامن بين إعلان ترامب اعتزام بلاده الانسحاب من معاهدة الحد من الأسلحة النووية متوسطة المدى، وإعلان فرنسا إنشاء جيش أوروبي مشترك، يحمل الكثير من الدلالات والتفسيرات بشأن الأمن والاستقرار، ليس لدى واشنطن وموسكو فقط، وإنما في القارة الأوروبية.

وتعد الدعوة التي تبناها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لإنشاء جيش أوروبي مشترك بمثابة محاولة جديدة لإنقاذ أوروبا من التحديات الكبيرة التي تواجهها، خاصة منذ وصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، حيث تبنت الولايات المتحدة خطابًا مختلفًا تجاه حلفائها من دول المعسكر الغربي، امتد في حدته إلى الجانب الأمني، وهو ما بدا واضحا في التلويح الأمريكي المتواتر بالتنصل من الالتزامات الأمنية تجاه أوروبا، والتهديد المتواصل بالانسحاب من حلف الناتو. وهذا ما قد يدفع الدول الأوروبية لتأسيس الجيش المشترك، مع العمل على تفعيل حلف الناتو، الذي أحد وسائل الردع الغربية لتطويق النفوذ الروسي في أوروبا.

هل نحن على مشارف حرب نووية؟

يخشى العديد من المراقبين أن يؤدي انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة التخلص من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى إلى نشوب حرب نووية.

فبعد خروج الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ الباليستية عام 2002، وعدم الرغبة الأمريكية في تجديد اتفاقية ستارت التي تنتهي في عام 2021، والتصريح الأمريكي بالخروج من معاهدة الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى؛ تكون بذلك كافة المعاهدات التي تحد من التسلح والتي أُبرمت لإنهاء الحرب الباردة قد ألغيت.

ويخشى بعض المحللين من أن يؤدي التحلل من اتفاقيات التسلح إلى دورة من التصعيد التدريجي لن يتم السيطرة عليها إلى درجة تُفضي إلى اندلاع حرب نووية، لاسيما مع تزايد التوترات بين روسيا وحلف شمال الأطلسي في أوكرانيا وبحر البلطيق، وإعلان الولايات المتحدة لعقيدتها النووية في مطلع عام 2018، والتي تنص على تطوير قدراتها النووية المنخفضة.

ومما يجعل هذا القلق حقيقيًا وليس مجرد مخاوف تصريح وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” بأن “فرضية استحالة الحرب النووية التي قد تمت صياغتها في العهد السوفيتي السابق بالتعاون مع الولايات المتحدة تحتاج إلى تأكيد في الظروف الراهنة”.

وحسب المعلومات الواردة من وزارة الدفاع الأمريكية تتوفر في ترسانة روسيا من ألف واحد إلى 6 آلاف ذخيرة نووية تكتيكية، فيما تمتلك الولايات المتحدة 500 قطعة فقط من السلاح النووي التكتيكي ومن بينها 200 قطعة تخزن في مستودعات ألمانيا وإيطاليا وتركيا وهولندا وبلجيكا.

ويؤشر سعي الطرفين -الروسي والأمريكي- لتصنيع القنابل النووية التكتيكية ذات القوة المنخفضة إلى استعدادهما لاحتمالات وقوع “حرب نووية محدودة”، وهو ما يرفضه بعض المحللين الذين إذ يرون أنه ليست هناك آليات عملية للتحكم بتحولها نحو حرب نووية شاملة.

فيما يرى محللون آخرون أن التهديد باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية يندرج ضمن إطار إستراتيجية الردع الجديدة وهي (التصعيد من أجل الردع).

سباق تسلح محموم

يتفق المحللون على أن الانسحاب الأمريكي من معاهدة الصواريخ المتوسطة يعني عودة سباق التسلح من جديد في العالم، خاصة من جانب روسيا، وقد تكون لأمريكا مصلحة من وراء ذلك، خصوصًا أن أحد أهم أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي كان يتمثل في الموازنات الضخمة التي كانت تُنفق لتمويل مشاريع التسلح خلال الحرب الباردة، وسوف يؤدي أي سباق تسلح جديد إلى إرهاق منافسي الولايات المتحدة الأمريكية اقتصاديًّا.

ووفقاً لخبراء الأمن والتسلح، فإن أحد الأسباب الرئيسية التى حملت أمريكا على الإقدام على مثل هذا القرار، يكمن في استجابتها لرغبة أصحاب ومصانع تجارة السلاح، والذي لا يناسبه ثبات اتفاقيات الحد من التسلح التي تُقلّص من حجم الطلب على شراء الأسلحة على الصعيدين المحلى والعالمي.

ويعتقد الخبراء الآن أن الولايات المتحدة بعد الانسحاب من المعاهدة سيمكنها أن تستأنف إنتاج أنظمة الصواريخ المحظورة وتزيد من مدى عمل الصواريخ المتوفرة لديها حاليًا، وتصنيع أنواع جديدة من الأسلحة النووية الضاربة، وهو ما سيشكل تهديدًا ضد روسيا.

ومن المؤكد أن التهديد الأمريكي الجديد ضد روسيا سيقودها إلى الرد بحدة، وممارسة ضغوط وتهديدات عسكرية جديدة على الدول المجاورة لها، حيث توجد قواعد عسكرية أمريكية، وهذا يمكن أن يؤدي إلى موجة من عدم الاستقرار العالمي بصفة عامة، وعلى أوربا بشكل خاص. وسيدفع ذلك مناطق بأكملها إلى سباق تسلح جديد.

ومن المرجح أيضًا أن انسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة يأتي على خلفية التوترات الأمريكية مع الصين، والحرب التجارية التي تقودها واشنطن ضد بكين، وبالتالي من المتوقع تصاعد التوترات الأمريكية – الصينية، في المحيط الهادئ على أثر تطوير الولايات المتحدة لنمط الصواريخ الذي يشكل تهديدًا لروسيا والصين.

وقد يؤدي انسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة إلى توجيه الأنظار نحو الصين، التي يمكن أن تطور دون قيود، أسلحتها النووية متوسطة المدى، بما أنها لم توقع على الاتفاق.

إمكانية التفاوض

وفي ضوء هذه المخاوف من الحرب النووية وسباق التسلح يرى العديد من الخبراء أن خيار الاستمرار في المفاوضات في إقناع روسيا بالعودة للالتزام بالمعاهدة كان أقرب للمنطق وأكثر نفعًا، لاسيما أن القرار الأميركي من شأنه أن يشحن الروس ويعقد الموقف ويهدد أمن المنطقة بأسرها.

ويؤكد الخبراء أن إمكانية التفاوض بين الجانبين لا زالت ممكنة، وهناك مؤشرات على إمكانية نجاحها. فعلى الجانب الروسي لا يبدو أن هناك ممانعة للحوار والتفاوض، خاصة وأن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو قال إن هناك استئناف تدريجي للحوار بين موسكو وواشنطن بعد قمة الرئيسين بوتين وترامب بهلسنكي في تموز الماضي.

وأشار إلى أنه “يوجد هناك قضايا عديدة يمكن أن تحلها روسيا والولايات المتحدة معًا، ومنها، قضايا الردع النووي، ومسائل تسوية النزاعات الكبيرة القديمة”، وأكد أن العسكريين الأمريكيين والروس لا يزالون في اتصال دائم لحل القضايا الحيوية.

وكان مندوب روسيا الدائم لدى الاتحاد الأوروبي فلاديمير تشيجوف، قد صرح بأن بلاده مستعدة للنظر في المعاهدة. وأضاف أن موسكو مستعدة للحديث عن تعديل المعاهدة أو استبدالها بمعاهدة جديدة.

وحول اقتراح واشنطن شمول المعاهدة المعدلة للصين بسبب مخاوفها من برنامج بكين الصاروخي، تساءل تشيجوف: “لماذا تتخوف الولايات المتحدة من ذلك أكثر منا؟”.. مشيرا إلى أن روسيا لها حدود برية طويلة مع الصين، بخلاف الولايات المتحدة.

وعلى الجانب الأمريكي يرى الخبراء أن الرئيس “ترامب” يتبنى نظرية “مادمان” (Madman Theory) التي ارتبطت بشكل رئيسي بسياسات الرئيس “نيكسون” الخارجية، حيث قام بترسيخ اعتقاد لدى السوفيت بأنه غير عقلاني ومتقلب، وهو ما يجعل القادة الآخرين يتجنبون استفزازه خوفًا من أي رد فعل غير متوقع.

وهو ما يتّبعه “ترامب”، حيث يعمد إلى التصعيد والوصول بالأمور إلى حافة الهاوية، ومن ثم يفتح لخصومه فرصة للتفاوض وفقًا لشروط مناسبة له، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من خلال تصريح “ترامب” في أكتوبر 2018: “أموالنا أكثر من أي أحد غيرنا.. سوف نقوم بزيادة الأسلحة النووية حتى تعود روسيا والصين إلى رشديهما، وحينها سنكون حكماء وسوف نتوقف، ولن نتوقف فحسب، بل سنخفض الكمية، سوف نفعل ذلك بسرور، لكنهما اليوم لا تلتزمان بالاتفاق”.

ومن ثم يبدو أن “ترامب” يسعى للتصعيد لإيجاد اتفاق بديل توقّع عليه الصين أيضًا، حيث أشار في تصريح آخر إلى أن “الصين لا تدخل في الاتفاق، لكن يجب إدخالهم فيه”. وربما يكون الحل الأمثل لهذه الأزمة أن يكون هناك نقاش جاد حول مراجعة المعاهدة، وإمكانية تعديل بعض بنودها، على ضوء المتغيرات الإستراتيجية والتطور النوعي في الصناعة العسكرية في العالم

تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى