تقارير

العنصرية في تونس.. قانون جديد يكشف المسكوت عنه

تونس- هاجر العيادي

في سابقة هي الأولى من نوعها تحدث في دول العالم العربي، صادق مجلس نواب الشعب بتونس على مشروع القانون الأساسي رقم 11 لسنة 2018 المتعلق بالقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، وتمت المصادقة على القانون بموافقة 125 نائبًا ومعارضة نائب واحد وامتناع 5 آخرين عن التصويت.

ويهدف القانون إلى تحقيق المساواة، وعدم التمييز بين كافة المواطنات والمواطنين في الحقوق والواجبات، والتأكيد على قيم التضامن والاحترام والتسامح والتعددية. كما ينص على تشكيل لجنة وطنية لمناهضة التمييز العنصري، ويلزم الدولة التونسية بضبط السياسات والاستراتيجيات وخطط العمل الكفيلة بالوقاية من جميع ممارسات التمييز العنصري في جميع القطاعات، علاوة على تمكين ضحايا التمييز من الحق في الإحاطة الصحية والنفسية والاجتماعية والحماية القانونية والحصول على التعويض العادل.

ورغم إيجابية القانون وأهميته إلا أن إقراره أثار العديد من التساؤلات حول قضية العنصرية في تونس، وما إذا كان هناك ممارسات عنصرية ترقى إلى حجم الظاهرة، مما أكد أهمية وجود قانون رادع يمنع هذه الممارسات.

“راديو صوت العرب من أمريكا” يسلط الضوء في هذا التقرير على ظاهرة العنصرية في تونس، من خلال آراء بعض الخبراء والمختصين، للتعرف أكثر حول العنصرية ومظاهر انتشارها، ومحتوى القانون الجديد الذي ينص على عقاب مرتكبي هذه الظاهرة.

ظاهرة مسكوت عنها

أكثر من مليون مواطن ذوي بشرة لونها سوداء يعيشون في تونس اليوم، بالإضافة إلى جالية تقدر بـ10 آلاف شخص من جنسيات إفريقية مختلفة، بينهم من هو طالب ومن يعمل في القطاع الخاص. ويعاني أغلب هؤلاء من صعوبات على مستوى الاندماج، أو على مستوى فرص العمل مقارنة بالمواطنين من أصحاب البشرة البيضاء.

وفيما يخص أسباب انتشار ظاهرة العنصرية تقول أخصائية علم الاجتماع آمال النغموشي إن المتأمل في تاريخ البلاد التونسية يلاحظ أن معضلة التمييز العنصري لم تكن مطروحة، سواء على المستوى الإعلامي أو على المستوى الرسمي للقانون في البلاد, بل إن التعايش السلمي والاجتماعي بين مختلف الفئات الاجتماعية كان السمة الغالبة على المشهد العام للمجتمع، حيث تتراءى لنا صورة المجتمع التونسي التي تجسد فسيفساء من الأقليات.

وقد سبقت تونس العديد من الدول العربية والكثير من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية في إلغاء قانون الرق منذ سنة 1848. إلا أن تلك الصورة الناصعة سرعان ما اهتزت بمجرد سقوط الحكومة السابقة في البلاد في 2011، حيث تفاجأ الرأي العام في تونس بتحقيق تلفزيوني تم بثه على إحدى القنوات الخاصة في شهر مايو 2017 يشتكي فيه أشخاص من ذوي البشرة السوداء من ممارسات عنصرية تُمارس ضدهم.

تمييز عنصري

وفي هذا السياق تقول النغموشي إن هذا التحقيق التلفزيوني كشف عن تذمر وشكوى أقلية ذوي البشرة السوداء في تونس من وجود تمييز عنصري ضدهم، مشيرين إلى أن هذا التمييز كان قائمًا على أساس لون البشرة. وهو ما مثل منعرجًا شديدًا في نسيج العلاقات الاجتماعية في تونس.

وتضيف النغموشي إن عدد التونسيين ذوي البشرة السوداء الذين يعيشون في تونس بلغ حوالي المليون مواطنًا، بالإضافة إلى جالية تقدر بعشرة آلاف من جنسيات إفريقية مختلفة موجودة في تونس إما بسبب العمل أو بسبب الدراسة أو بسبب اللجوء إلى البلاد التونسية.

وأضافت أنه على الرغم من أن تونس تعد رائدة على مستوى العالم في إلغاء العبودية, على حد تعبيرها، إلا أن هناك مظاهر اجتماعية سلبية في التعامل مع المواطنين ذوي البشرة السوداء لا تزال منتشرة, ومن بينها المصطلحات السائدة مثل “كحلوش, صيف, خادم, عبيد, عتيق، زمباك”، وغيرها من المسميات الأخرى التي يعتبرها أصحاب البشرة السوداء إهانة لهم. بل إن عدم الزواج بين أصحاب البشرة السوداء وأصحاب البشرة البيضاء يعتبر أمرًا شبه مستحيل على الرغم من وجود استثناءات.

احتجاجات للتنديد بالعنصرية

وقد نظم هؤلاء الأفارقة العديد من الوقفات الاحتجاجية، كانت غالبية الكلمات فيها قوية ومنفعلة، كشف فيها كل متحدث عن الحوادث العنصرية التي وقعت له، سواء في وسائل النقل، أو في الأسواق، أو في المدارس والجامعات، وهي حوادث تصل في الكثير من الأحيان إلى الاعتداءات المادية التي قال المتحدثون إنها يومية، وجعلتهم يتجنبون الاحتكاك بالناس، والاكتفاء بالعزلة أو اللقاءات الخاصة بينهم.

مرض فتّاك

وفق ما أفادت به النغموشي فإن علم الاجتماع يشير إلى عدة تعريفات عن العنصرية من بينها أنها تمثل الأفكار والمُعتقدات ومختلف القناعات والتَّصرفات التي ترفع من قيمة مجموعة معينة أو فئة معينة على حساب الفئات الأخرى، بناءً على قناعات موروثة مرتبطة بقدرات الناس أو طباعهم أو عاداتهم.

وتعتمد الممارسات العنصرية في بعض الأحيان على لون البشرة أو الثقافة أو مكان السكن أو العادات أو اللغة أو المعتقدات. كما أنّها يُمكن أن تعطي الحق للفئة التي تم رفع شأنها بالتحكّم في الفئات الأخرى، وفي مصائرهم وكيانهم، وسلب حقوقهم، وازدرائهم دون حق أو سبب واضحٍ.

وتضيف النغموشي أن العنصريّة ظهرت منذ بداية خلق الله للإنسان، وبداية الحياة على هذه الأرض، وتعدُّ أحد أسباب الخلافات، وأبرز أسباب الحروب والتفرقة.

وهي بذلك تعدّ من أشد الأمراض فتكًا بالمجتمعات، إذ لم يخلُ عصر من العصور منها. ولعل تجارة الرقيق الأفارقة التي اجتاحت المشهد العام من قبل، والتي شاركت فيها أغلب الدول, تعد خير مثال على ذلك, حيث يصبح ذّوي البشرة السوداء عبيدًا بلا سبب عدا الاختلاف في لون البشرة.

وتشير النغموشي إلى أن العنصرية لها عدة أشكال، مثل اختلاف طريقة التعامل، وتفضيل بعض الناس على البعض الآخر بسبب الانتماء العرقي, أو بسبب فرض قوانين على فئة محدّدة من الناس بسبب انتمائهم العرقي.

العنصرية في تونس

أما العنصرية في تونس فهي من الآفات الاجتماعية التي يصعب الحديث والنقاش حولها في المجتمع التونسي، لكونها مصطلح وافد تبلور معناه مع وجود الدولة الحديثة، مع ما أتت به من مدنية قائمة على أساس المواطنة، التي تضمن العدل والمساواة والشراكة في بناء المجتمع، والاعتراف بالاختلاف والتّعدّد, وتخطّي القوانين القبلية والنعرات العشائريّة.

كما أن العوامل الاقتصادية التي مر بها المجتمع التونسي قد سارعت بتطوره من مجتمع زارعي رعوي يستلهم قيمه وأحكامه من سلطة القبائل والعشائر, إلى مجتمع حديث ومدني يتعايش فيه كل الفاعلين الاجتماعيين دون المرور بالخطوات اللازمة التي لا بد أن يمر بها أي مجتمع ينشد الحداثة والتمدن.

فقد ساهمت الحداثة في تونس بفرض التقيّد والعمل بأحكام القوانين الدّولية، دونما استعداد لقبولها والإيمان بها والاقتناع بجدواها, وهو ما خلق مناخًا عامًا قابلاً للاهتزاز كلما توفرت العامل المناسبة لإحياء خصائص العيش القبلي, والعودة إلى نسق الحياة الريفيّة، أي خلق مزاج عامّ يكرّس المدنية في خدمة القبيلة.

صعوبة المعالجة

هذا الأمر يجعل من الصعوبة بمكان القضاء على عوارض داء العنصرية, التي ما تلبث أن تطفو وتتفشى عند أقرب هزة اقتصادية أو تهديد لقيم المجتمع وتصوراته، فضلاً عن القضاء على ترسباته العالقة في نفوس الأفراد، وهو ما عايشه المجتمع التونسي بعد اندلاع ثورات الرّبيع العربي منذ سنة 2011. حيث تعالت أصوات الاستغاثة من وجود ظاهرة العنصرية في تونس. وهذا ما يقودنا للسؤال: هل يشكّل وجود الأقليات السمراء في تونس دافعًا لوجود أزمة تواصل وأزمة انسجام اجتماعي داخل مفاصل المجتمع التونسي؟، وهل نحن بالفعل مجتمع قابل للاهتزاز الظّرفي؟

سؤال تجيب عنه أستاذة علم الاجتماع آمال النغموشي، حيث تقول إن العنصرية في تونس هي رشح سيكولوجي قبل أن تكون سلوكيات اجتماعية, وتعد من مظاهر السلوك الأخلاقي ونوعًا من أنواع التهاوي الإنساني، وتعامل معه أصحاب البشرة السوداء بامتعاض وسخط، وشاركهم في ذلك البعض من البيض الذين أقرّوا بوجود هذه الظاهرة في صلب المجتمع التونسي.

وعند التأمل أكثر في هذه الظاهرة تفسر النغموشي أنها لا تعدو أن تكون انفلاتًا نفسيًا وعاطفيًا تجاه حاملي البشرة السوداء, إلا أن مدى هذا الانفلات النفسي يتجاوز العابر اللفظي الكلامي, فهو في حقيقة الأمر يستقرّ عميقًا بين خبايا التربية والتعليم المدرسي، وبين خبايا التنشئة الاجتماعية للفاعلين الاجتماعيين، وداخل مخزون وموروث ثقافيين, يلفّهما غياب كامل لكل إحاطة إعلامية وتشريع قانوني. مما سمح ببشاعة صورة الأسود في المخيال الجمعي, وهي صورة لا تستقرّ ولا تترعرع إلا في عقول مدّعيها ومن يؤمنون بها.

جهود مجتمعية

وأضافت أن ما سبق يحيلنا إلى الحديث عن الجهود الحثيثة التي بذلتها العديد من الجمعيات الإنسانية مؤخرًا، مثل “جمعية الحق في الاختلاف”، والتي كان لها الفضل في تمرير المطالبة بإنشاء قانون يحمي الأقليات إلى مجلس النوّاب في تونس، والذي كُلل بالموافقة عليه، ووضع أسسًا ثابتة للتعامل الإنساني واحترام الذات البشرية، دون تمييز بين الفاعلين الاجتماعيين على اختلافهم في اللون والقدرات وجهات الانتماء والدين والعرق. كما يعتبر هذا الانجاز من النجاحات المهمة والرائدة التي حققتها تونس في مجال حقوق الإنسان.

وفي خضم انتشار هذه الظاهرة والحوادث المتكررة دعا رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد مجلس النواب إلى “تعجيل النظر” في مشروع قانون يجرم العنصرية، وهو مشروع كان قد تم تقديمه قبل نحو عامين إلى البرلمان لتسهيل ملاحقة مرتكبي مثل هذه الجرائم.

قانون رادع

وصادق مجلس نواب الشعب في تونس، مؤخرًا على مشروع القانون الأساس المتعلق بالقضاء على جميع أنواع التمييز العنصري. ووفقًا للمحامي لدى محكمة التعقيب بتونس والأستاذ الجامعي لطفي الشملي فإن القانون الجديد يُعرّف العنصرية على أنها كل تفرقة أو استثناء أو تقييد أو تفضي يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو غيره من أشكال التمييز العنصري على معنى المعاهدات الدولية المصادق عليها، والذي من شأنه أن ينتج عنه تعطيل أو عرقلة أو حرمان من التمتع بالحقوق والحريات أو ممارستها على قدم المساواة، أو أن ينتج عنه تحميل واجبات وأعباء إضافية.

ويقول الشملي إن القانون الجديد يعاقب كل من يرتكب فعلاً أو يصدر عنه قول يتضمن تمييزًا عنصريًا بقصد الاحتقار أو النيل من الكرامة، بالسجن من شهر إلى عام، وغرامة من 500 إلى 1000 دينار أو إحدى هاتين العقوبتين، وتضاعف العقوبة إذا كانت الضحية طفلاً أو في حالة استضعاف بسبب التقدم في السن أو الإعاقة أو الحمل الظاهر أو الهجرة أو اللجوء، أو إذا صدر الفعل عن مجموعة أشخاص سواء كفاعلين أصليين أو مشاركين، أو إذا كانت لمرتكب الفعل سلطة قانونية أو فعلية على الضحية أو استغل نفوذ وظيفته.

ويضيف الشملي أن القانون يعاقب بالسجن من عام إلى ثلاثة أعوام وغرامة مالية من 1000 إلى 3000 دينار، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من يرتكب أحد الأفعال التالية، التحريض على الكراهية والعنف والتفرقة والفصل والعمل أو التهديد بذلك ضد كل شخص أو مجموعة أشخاص أساسه التمييز العنصري، أو نشر الأفكار القائمة على التمييز العنصري أو التفوق العنصري أو الكراهية العنصرية بأي وسيلة من الوسائل، أو الإشادة بممارسات التمييز العنصري عبر أي وسيلة من الوسائل أو تكوين مجموعة أو تنظيم يؤيد بصفة واضحة وبشكل متكرر التمييز العنصري أو الانتماء إليه أو المشاركة فيه أو دعم الأنشطة أو الجمعيات أو التنظيمات ذات الطابع العنصري أو تمويلها.

ويوضح الشملي أن قانون تجريم العنصرية ينص على أنه إذا كان مرتكب الأفعال المنصوص عليها شخصا معنويًا، يكون العقاب بغرامة من 5000 إلى 15 ألف دينار.

دعم القانون

من جانبها عبرت يمينة حمدي الصحافية التونسية بجريدة العرب اللندنية عن اعتقادها بأن القانون الذي سنته البلاد التونسية لتجريم العنصرية يمثل رسالة قوية وردعية لمرتكبي الممارسات العنصرية، مفادها أن زمنهم يجب أن ينتهي إلى غير رجعة، فمن غير المعقول والمقبول أن تظل جريمة العنصرية قائمة في دولة القانون والمؤسسات، ويتم ارتكابها بكل برودة أعصاب، وعلى مرأى ومسمع من السلطات، ودون أن ينال الضحايا حقهم في رد الاعتبار لكرامتهم المهدورة ولإنسانيتهم المنكل بها.

ورأت حمدي في تصريح لـ”راديو صوت العرب من أمريكا” أن هذا الإجراء لا يمثل سابقة تاريخية بالنسبة للبلاد التونسية بقدر ما هو إحقاق للحق، وإعلاء لمبدأ العدالة الاجتماعية التي يجب أن يتمتع بها جميع البشر بغض النظر عن العرق والجنس والمذهب والدين.

وتمنت يمينة حمدي التي تركز على تقارير واستطلاعات اجتماعية حول قضايا المجتمعات العربية واضطهاد المرأة، أن يكون هذا الإجراء الذي اتخذته السلطات التونسية حقبة ديمقراطية جديدة لتونس، ويضع حدًا للعنصرية الضمنية والتحيز الموروث لدى الناس، ويكون بالفعل قادرًا على القضاء على هذه الجريمة ضد الإنسانية.

وفي خاتمة تصريحها طالبت يمينية حمدي جميع قوى المجتمع المدني بدعم هذا القانون بغض النظر عن حقيقة ما إذا كان سيكون كافيًا أم لا للقضاء على جميع الممارسات العنصرية، مشددة على ضرورة تصرف جميع السياسيين بشكل مسئول، وعدم تجاهل الفجوات الاجتماعية والفوارق الطبقية التي تعد أيضًا شكلاً من أشكال التمييز والتفرقة بين أفراد المجتمع التونسي وشرائحه المختلفة.

تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى