رأي

الفول المدمس وحال السوريين قبل ثلاثة أرباع قرن!!

By د. عارف دليلة

September 28, 2021

كتب الصديق د مهيب صالحة يذكر بأن سعر علبة الفول المدمس وصل إلى سبعة آلاف ليرة سورية، فاجترحت هذأ المقال:

أولًا، أرجو أن تكون بألف خير عزيزي مهيب، وقد قهرت الفيروس اللعين!، ثانيًا، بما أنك ذكرتنا بالفول المدمس الذي أصبحت العلبة منه، التي لا تسكت معدة إنسان لساعتين، بسبعة آلاف ليرة سورية هذه الأيام، فلا بد من التذكير بما أورده الكاتب الكبير باتريك سيل في كتابه الثاني عن سورية، الذي صدر قبل أكثر من ثلاثين عامًا، يوم كانت سورية، بزعمه ووهمه، تدير وتتحكم بالصراع على الشرق الأوسط، بعد أن كانت، حسب كتابه الأول عنها عام 1957، موضوعًا للتصارع عليها بين الدول الإقليمية المحيطة والمشاريع الاستعمارية العالمية- الصهيونية.

وكأن التاريخ يعيد نفسه منذ عشر سنوات، ولكن بصورة هزلية ساخرة، حسب تعبير كارل ماركس، حتى بات الكثيرون يقولون: ليتها بقيت موضوعًا لتصارع الآخرين، وحسب، إذ أن شعبنا كان آنذاك شامخ النفس قوي العزيمة، وموحدًا وطنيًا، لدرجة ثباته في مواجهة  تهديدات وحصارات الأحلاف والمخططات الإمبريالية الصهيونية التي كانت تضيق عليه الخناق، ولكن دون أن تضعف أو تفت شيئًا من عضده وتمسكه باستقلال بلده، وعدم تقبل أن تدوس أية قوة على طرف ثوبه!

المهم، باتريك سيل جاء على سيرة الحمص والفول في مطلع كتابه الثاني الكبير، وهو يروي عن نشأة حزب البعث ومؤسسيه عام 1947، وقد وصفهم بالشباب المثقف الذين يعملون بشكل أساسي معلمين في المدارس، مثل ميشيل عفلق، وصلاح البيطار، وآخرين.

ويصور صفحة من عاداتهم الغذائية بأنهم اعتادوا أن يأكلوا الفول والحمص في مطعم صغير على الزاوية في منطقة “البحصة”، المنطقة التي توجد فيها الآن البناية الكبيرة المسماة  “المحافظة”، والتي تضم مكاتب مسؤولي محافظة دمشق.

وكانت، وما زالت، أكلة الفول والحمص من أهم الأكلات الشعبية المعروفة بطيب مذاقها وقدرتها المعتبرة على الإشباع وإسكات المعدة بثمن زهيد، مقابل قيمتها الغذائية العالية، مع رفد الفول والحمص بالبصل الأخضر والليمون والنعناع والبقدونس والفجل والخيار والمخللات من نتاج الغوطة الغناء، وإغراق الفول والحمص بزيت الزيتون السوري الوافر المميز (وكلها قد أصبحت، أيامنا هذه، من  المشهيات التي يستطيع فقط أن يحلم بها ثلاثة أرباع الشعب السوري، وترتفع النسبة إلى تسعين بالمئة، إذا أضفنا إلى هذا الصحن الفاخر الخبز الطازج الفواح الرائحة “راسه بعبو” (هذا الكلام حتى هنا إضافة من عندي من مفرزات هذه الأيام التي رحم الله باتريك سيل قبل أن يعاينها ويعاين الشعب السوري الحي معها) .

يروي باتريك سيل أن مؤسسي حزب البعث المعلمين ميشيل عفلق وصلاح البيطار كانا يأكلان من تحت يد صاحب هذا المطعم بكلفة 15 قرشا سوريا فقط للصحن الواحد، هذا مع إعادة “تعميره” مجانًا غب الطلب بإشارة معروفة بكلمة “صلحو”!.

ويضيف باتريك سيل: أن الكلفة ترتفع إلى 25 قرشًا إذا كانت رغيف الخبز من عند المطعم، ومن أجل توفير خمسة قروش في كل وجبة كان المعلمان يحملان معهما من البيت رغيف الخبز، لأن قيمته هي خمسة قروش فقط، فقد كانا يعيشان على الراتب (الذي لم يكن يتجاوز 150 ليرة شهريًا، أو أقل، كما أظن)، بدلاً من دفع عشرة قروش ثمنًا لرغيف الخبز إلى صاحب المطعم!

بالطبع، فإن الكاتب الحصيف ترك المثال الفاقع هذا بدون إسقاط على الواقع المستحدث ودون أن يقول إن من يدعون أنهم أحفاد ذلك الجيل المؤسس للبعث، وقد أصبحوا “آلهة”، قد تناسلوا وتكاثروا حتى أصبحوا يفاخرون الأمم، بالطبع ليس بأكلة الفول، وإنما بثروات لم تعد السموات والأرض تسعهم وتسعها، داخل وخارج الحدود، لشعب لم يعد راتب المعلم لديه، وأنت سيد المعلمين، يا أخي مهيب، يشتري أكثر من عشرة علب فول في الشهر، حسب السعر الذي تذكره، ينذكر ولا ينعاد!

ومن العجب أن ترى أولئك المؤسسين للبعث يحرصون على توفير الخمسة قروش في اليوم، علما أن راتبهم، قبل سبعين عامًا، كان يشتري 1000 علبة فول، أو أضعاف ذلك، أي أنه كان أكبر بمائة مرة، أو أكثر بكثير، من الراتب الحالي، فقط لا غير!، دون حساب ثمن وفوائد المازوات والمقبلات المجانية، غالبًا، من الخضروات والليمون وزيت الزيتون العفريني السوري البكر!

وإنه لـ”تقدم” لا يمكن لعقل بشري سوي أن يحيط به، فما بالك بعقل “منحرف”، مثل عقلنا نحن، “الإرهابيون”، الذين دمروا سورية وأخرجوها، دولة وشعبًا وبيئة وآثارًا، لم تدمرها، بل حافظت عليها حتى همجيات القرون السابقة، وأيضًا اقتصادًا وتاريخًا وحاضرًا ومستقبلًا، من التاريخ والجغرافيا، ومصرّون حتى آخر سوري، ليس من خصومهم فقط، وقد حرصوا بشدة على أن يجعلوا كل سوري خصما لهم ، بل من التبع لهم!.

نحن “الإرهابيون”، وفق تصنيف “الآلهة” من أحفاد أعداء أولئك المؤسسين، آكلي المدمس والأخضر الندي من المشهيات  بـ 20 قرشا فقط لا غير!. ترى، أين أصبحت سورية اليوم، مقارنة بما كانت عليه قبل ثلاثة أرباع القرن؟