ما من شكٍ أبداً في أن السياسة الأمريكية في الشرق الوسط قد تغيرت، ولم تعد سياستها التقليدية التي عُرفت بها هي السائدة في المنطقة، فهناك متغيراتٌ يسهل رصدها ويصعب إنكارها، وكلها تشير إلى تغيرٍ ما في ذهنية الإدارة الأمريكية تجاه أكثر من منطقة في العالم، وتجاه منطقة الشرق الأوسط بصورةٍ خاصةٍ، وتجاه القضية الفلسطينية والعلاقة مع إسرائيل على وجه التحديد.
لكن الأمر يبقى محيراً ومقلقاً، ولا يبعث على الراحة والاطمئنان، إذ لا يمكننا الحكم بسهولة على جدية المتغيرات الأمريكية ومصداقيتها، وما إذا كانت حقيقية أم زائفة، ودائمة أو مؤقتة، وهل هي لتجاوز أزمة والانتقال إلى مرحلةٍ جديدةٍ، يتم فيها إعادة ترتيب الأوراق ورسم السياسات، وتنظيم العلاقات وتحديد الأولويات، أم هي سياسة جديدة فرضتها المرحلة الراهنة وتحدياتها الجديدة ومفاهيمها المختلفة، خاصةً بعد الاتفاق مع حركة طالبان، وتنفيذ الانسحاب الكامل من أفغانستان، مع ما رافق عملية الخروج من مظاهر سلبية ومشاهد مؤذية للصورة النمطية الأمريكية.
لا يمكن أن نعزو المتغيرات الأمريكية الحادثة للرئيس الأمريكي جو بايدن، وإن كان هو الذي يجاهر بها ويصر على تنفيذها، أو أنها نتيجة فوز الحزب الديمقراطي وسيطرته على مجلسي الشيوخ والنواب، ذلك أن قطاعاً غير بسيط من أعضاء المجلسين من الحزب الجمهوري، يؤيدون قرارات الرئيس أو يسكتون عنها ولا يعارضونها، سواء تلك التي تتعلق بوجوب وقف الحرب على اليمن، ورفع الحصار عنه، وتمكينه من تقرير مصيره بنفسه، ومنع إمداد الدول التي تشارك في قصفه وحصاره بالأسلحة والذخائر والمعدات القتالية.
لكن التغييرات الأكبر في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، والأكثر وضوحاً وتأثيراً، هي تلك التي تتعلق بالقضية الفلسطينية وإسرائيل، فالإدارة الأمريكية كان لها كلمتها في حرب “سيف القدس”، ومارس رئيسها جو بايدن ضغوطاً شديدة ومباشرة على الحكومة الإسرائيلية، وألزمها بوقف عدوانها على قطاع غزة، والتخفيف من معاناة سكان القدس والبلدات العربية، والإحسان إلى سكان حي الشيخ جراح ومعاملتهم بكرامة، وعدم التضييق عليهم وطردهم من بيوتهم، ورفض الاحتكام إلى القوانين والمحاكم المنحازة إلى المستوطنين، والتي تحكم لصالحهم رغم غياب الحجة وبطلان الدليل، وضعف المرجعية القانونية.
وزاد الأمر غرابةً انعقاد القمة العربية الثلاثية، المصرية الأردنية الفلسطينية في القاهرة، والتي بدت بلا شك أنها أمراً رئاسياً أمريكياً، وتكليفاً مباشراً للمسؤولين الثلاثة، بالإشراف المباشر على إدارة ملف العلاقة مع الحكومة الإسرائيلية، وإدارة العلاقة مع السلطة الحاكمة في قطاع غزة “حركة حماس”، ومتابعة شؤون القطاع الاقتصادية وحاجات سكانه الإنسانية، فيما يبدو أنه تسييل للقرارات وتنفيذ مباشر وسريع لها، إذ على الفور فتحت المعابر الإسرائيلية التي تربط قطاع غزة بالأرض المحتلة، ودخلت بضائع ومعدات وسلع بكمياتٍ كبيرة، وقد كان الكثير منها ممنوعاً من الدخول.
لا تخفي الإدارة الأمريكية على لسان رئيسها جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، خاصةً بعد انسحابها من أفغانستان، أنها تريد من الأطراف الثلاثة الفاعلة في المنطقة والتي التقت في القاهرة، إضافةً إلى إسرائيل ودولة قطر، فرض تهدئة في قطاع غزة وضمان استمرارها، وتحسين شروط عيش السكان، وتسهيل إدخال المنحة القطرية، وأموال المؤسسات الدولية، على أن تتزامن مع تهدئة ملموسة في الضفة الغربية، يطمئن فيها سكانها، ويرتاح فيها أهلها، ويشعرون بحرية العمل والبناء، والزيارة والتنقل والصلاة، ويأمنون على بيوتهم وممتلكاتهم، وأرضهم وحياتهم.
وفي الوقت نفسه تطلب من الأطراف الأربعة تطمين الحكومة الإسرائيلية والتخفيف عنها، بالضغط على الأطراف الفلسطينية كلها لوقف مختلف أشكال العنف، وإنهاء المسيرات الشعبية وفعاليات الإرباك الليلي المستمرة، وتيسير عقد صفقة تبادل أسرى بين الطرفين، لضمان عودة الجنود الإسرائيليين الأسرى إلى ذويهم، أو استلام رفاتهم تمهيداً لدفنهم ومعرفة قبورهم، إلا أن الإدارة الأمريكية التي تمارس ضغوطاً على القوى العربية الفاعلة لتسهيل عقد صفقة التبادل، فإنها تمارس ضغوطاً أخرى على الجانب الإسرائيلي للاستجابة إلى بعض الشروط التي يطرحها الفلسطينيون، واحترام الاتفاقيات الموقعة سابقاً والالتزام ببنودها.
تتزامن المطالب الأمريكية المباشرة من الأطراف الخمسة الرئيسة، مع وجوب العمل على تعزيز مكانة السلطة الفلسطينية، وتحسين أدائها، وفرض احترامها وتقديرها، ومنحها الدور المنوط بها، والتوقف عن كل ما من شأنه المساس بهيبتها، أو التقليل من احترامها، أو إضعاف دورها، ولعل اللقاء الذي جمع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بوزير الحرب الإسرائيلي بيني غانتس، في مقر المقاطعة بمدينة رام الله، والذي تمخض عن منح السلطة الفلسطينية قرضاً طويل المدى بفائدةٍ منخفضةٍ، وتسهيل تحويل أموال المقاصة الضريبية إليها، يصب في هذا الاتجاه الذي دعت إليه الإدارة الأمريكية، خاصةً بعد ورود العديد من الإشارات الخطرة التي تحذر من احتمال انهيار السلطة الفلسطينية مالياً، وعجزها عن دفع رواتب الموظفين والعاملين، والتوقف عن تشغيل المؤسسات والإدارات والهيئات العامة.
ومن جانبها بدأت الإدارة الأمريكية، إلى جانب تشغيل القنصلية الأمريكية في شرق القدس، ومباشرتها تقديم الخدمات القنصلية للفلسطينيين، بإعادة تمويل ودعم المؤسسات الفلسطينية، الصحية والثقافية والمدنية، وعمدت إلى عقد اتفاقٍ جديدٍ مع إدارة الأونروا، لإعادة دعم المؤسسة ودفع الحصص الأمريكية بانتظام، ويبدو أنها بصدد زيادة دعم المؤسسة الأمنية الفلسطينية، وغيرها من الهيئات والمؤسسات الشعبية والمدنية، خاصةً الصحية والتعليمية منها.
هي سياسةٌ أمريكيةٌ جديدةٌ لا شك في ذلك، وهي سياسةٌ ضاغطة على إسرائيل، وعلى بعض الأنظمة العربية التي تشارك في فرض الحصار على قطاع غزة أو تساهم في إدارته، ويبدو منها أنها تريد خلق حالة من الاسترخاء الفلسطيني، وصناعة أجواء من الهدوء والاستقرار، ومناخاتٍ مناسبة للعمل والبناء والتجارة والاستيراد.
ولكن السؤال الأهم يبقى مطروحاً بقوةٍ، وماثلاً بصراحةٍ وقلق، لماذا ومن المستفيد من هذه السياسة، وماذا تريد الإدارة الأمريكية، وماذا تخطط، وهل هي قلقة على الفلسطينيين وتعمل لصالحهم والتخفيف عنهم، أم أنها قلقة على الكيان الإسرائيلي الذي يخطئ ويخسر، ويتناقض ويتعثر؟.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس وجهة نظر الموقع