الراديوفن وثقافة

تاريخنا بين الواقع والخيال: من نصدق؟ ومن يملك الحقيقة؟

أجرى الحوار: ليلى الحسيني ــ أعده للنشر: أحمد الغـر

من يكتب التاريخ؟، وكيف وصل إلينا؟، هل أقرّه علينا الطُغاةُ بدكتاتوريتهم؟ أم فرضه علينا المنتصرون بقوتهم؟، هل خضع كُتّاب التاريخ لأهوائهم أم استجابوا لرغبة حُكّامهم أم كانوا أهلًا للأمانة ونقلوا إلينا الحقيقة والواقع كما حدث؟

هل جاءت قصة التاريخ إلينا كاملة أم مبتورة؟، وهل غابت فصول منها عنا أم غُيّبَت؟، وهل تجاهل المؤرخون أحداثًا وأبرزوا أخرى عن عَمد أم كانوا لا حيلة لهم أمام قوة من منع المعلومات وأخفى الحقائق، وأصرّ على أن ترى الأجيال القادمة ما حدث من وجهة نظره هو فقط؟

“راديو صوت العرب من أمريكا” قرر أن يسير في طريق الأشواك بحثًا عن الحقيقة.. نفتش بين الصفحات.. وننفض عنها الغبار، لنستوضح ما حدث من التاريخ وللتاريخ، وذلك من خلال سلسلة حلقات مميزة تحت عنوان تاريخنا بين الواقع والخيال.

الحلقة الأولى مع ضيفنا المميز، الدكتور عارف دليلة، الخبير والمفكر السياسي والاقتصادي السوري البارز، والذي له العدد من المؤلفات والأبحاث الاقتصادية السياسية المنشورة، والمعروف عنه مقاومته للفساد والاستبداد على مدى عقود، والذي سيصحبنا في حلقات عن تاريخ سوريا (ما بعد الاستقلال حتى ثورة 2011).

حقيقة أم خدعة؟
* دكتور عارف؛ نبدأ معك بالمحور الأول حيث التساؤلات التي طرحناها في المقدمة، هل نعرف تاريخنا حقا أم أننا عشنا خدعة كبيرة؟

** الحقيقة هي أننا لا نعرف تاريخنا، بل نعرفه مزورًا إذا كنا نعرف شيئًا، وذلك لأن التاريخ مغيّب بخطة محكمة، وممنوع على الناس أن يتعاطوا الحقائق، بل فُرِضَ عليهم أن يأخذوا بظاهر الأمور وما يُقال لهم عليهم أن يصدقوه، فالتاريخ في معظم بلدان العالم به حقائق غائبة، ولكن هناك بلدان يمكن الاطلاع فيها على معظم الحائق التاريخية، أما لدينا فلا يمكن الاطلاع إلا على ما يُرَاد لنا أن نطلع عليه فقط، وبالتالي يجب أن نفكر في إعادة قراءة التاريخ عبر إعادة فتح الابواب وإطلاق الحرية، وهذا هو أهم مفتاح لفهم التاريخ.

كتّاب التاريخ
* إذن، من يكتب التاريخ؟، وهل نثق فيما كُتِبَ؟

** التاريخ بشكل عام يكتبه البلاط، أيّ رجال السلطة أو ممثليها من المثقفين الذين يبيعون أنفسهم لخدمة السلطان، وبالتالي لا يعرف اللاحقون إلا ما يكتبه هؤلاء لهم، وأكثر التواريخ تزويرًا ـ للأسف الشديد ـ هو تاريخنا العرب الإسلامي.

لكن هذا لا ينفي وجود مفكرين ومؤرخين وفلاسفة عظام، مثل ابن رشد أو ابن خلدون، ولكن أمثال هؤلاء الذين لم يكونوا معبئين بأوامر السلاطين، كانوا معرضين للتهديد والقمع والقهر والإلغاء والملاحقة، كما يحدث هذه الأيام تماما.

* ونحن نطلّ معك على التاريخ، لا نقصد شخصيات بعينها ولا دولٍ بعينها، ولكن نتحدث ونتحاور بشكل عام عن التاريخ في منطقتنا العربية وفي العالم، بما في ذلك تاريخنا في الولايات المتحدة الأمريكية، وكما يُقال فإن التاريخ يكتبه الأقوياء. فيما يخص تاريخنا كعرب ومسلمين ؛ أشرت إلى أنه قد تعرض للتزوير، لكن من فرض على تاريخنا هذا التزوير؟، وهل كان المنتصر والمستعمر من الغرب هو من فرض علينا هذا التزوير والتغييب؟

** نعم، قد يكون المنتصر أو المستعمر، ولكن هذا جزء فقط من الإجابة، فإلى عهدٍ قريب كانت حتى المطبعة التي اختُرِعَت في أوروبا منذ قرون، ممنوعة في عالمنا العربي أيام السلطة العثمانية، حتى إلى ما قبل سنوات كان النشر قليلًا ومحدودًا ومحكومًا جدا، فنحن نعرف عبدالرحمن الكواكبي في بداية القرن العشرين وما قبله، فد دفع حياته ثمنًا لكتابه طبائع الاستبداد، بالرغم من محدودية الانتشار في ذلك الوقت، إذ كانت نسبة القراء لا تُذكر.

لاحقًا عندما انتشرت وسائل النشر والإعلام على نطاق واسع، انخرطت أعداد هائلة من الملايين الذين كنّا نتهمهم بالأمية، في فهم الأحداث ومتابعتها، ولكن للأسف حتى في هذه المرحلة، سيطر أصحاب المصالح الرعناء والسوداء على الإعلام، يصيغونه وفقًا لمصالحهم، وهؤلاء يمنعون ظهور الحقيقة، وبالتالي فإنهم يحاولون تزوير العقول، وليس تزوير الوقائع فحسب.

تاريخ مبتور
* إذن نستطيع أن نقول ببساطة أننا عشنا ـ ونعيش ـ وقاعًا مفروضًا علينا من القوتين، قوة الغرب وقوة من يحكم منطقتنا العربية عبر التاريخ.

** نعم، وللأسف فإن هاتين القوتين تظهران في منطقتنا العربية بشكل خاص، كم هما متحدتان ومندمجتان، ففي مناطق كثيرة من العالم هناك تضاد بينهما، أما في منطقتنا فإن التضاد موجود بين الفكر الوطني المتحرر العلمي الديمقراطي العصري، وبين الفكر المتخلف الذي يدبج المدائح للطبقة الفاسدة والناهبة والمفقرة للجماهير العربضة والبلاد بشكل عام.

* إذن فيما يخص قصة التاريخ؛ هو أن هذا التاريخ قد جاء إلينا مبتورًا وغُيّبت فصول منه، وتجاهل المؤرخون أحداثًا وأبرزوا أخرى عن عمد، أو ربما كانوا قليلي الحيلة أمام من أخفوا تلك الحقائق، فهل ما أقوله صحيحًا لتوصيف تاريخنا منذ فجر التاريخ وحتى العصر الحالي؟

** نعم، صحيح، رغم أنه في مراحل كثيرة كنا نلاحظ أن كتابة التاريخ تتمتع بدرجة من الاستقلالية والحيادية، من قبل مفكرين أصرّوا على التنزه وخدمة الحقيقة، يبرز من بينهم على سبيل المثال؛ ابن خلدون، الذي يعتبر هو مؤسس علم التاريخ، وكتابه الأشهر “أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر” الذي اتبع فيه طريقة تقليدية لجمع الوقائع والمعلومات والبيانات والأرقام.

ثم عاد وناقشها بطريقة تحليلية تجريدية علمية، ثم ترك كل ذلك، وكتب كتابًا واحدًا اسمه “المقدمة”، وفي هذه المقدمة يتجرد من كل هذه الأخبار وظواهر الأمور ويغوص إلى أعماقها، ويكشف عن القانونيات التي تحكم مسيرتها وظهورها وموتها، وقد اعتبر الدول مثلها مثل الإنسان، تُولد ثم تشب وتهرم وتموت وهكذا.

إذن يوجد أمثال ابن خلدون، ولكنهم قليلون، وحتى هذا المثال الذي ذكرته عن ابن خلدون، قد جاء في بداية عصر السقوط والانحدار العربي، فتجلس عليه الغبار ولم يلتفت إليه بني أمته، لا هو ولا غيره من أقرانه من العلماء والمفكرين والفلاسفة، إلى أن جاء الغرب نفسه في العصر الحديث ونبش الغبار وأعاد هذه الأفكار العلمية المرموقة إلى الحياة، ومن المؤسف أننا في عصرنا الراهن لا يزال هناك مفكرين أفذاذ يفكرون بطريقة علمية ومتجردة، ولكن تُهدر دمائهم ويذهبون ضحية أفكارهم من قبل الغوغاء العريضة التي تُدار من قبل من يمسك زمام أمورها المادية، ويرسم لها طريقًا محددًا لا يمكن أن تحيد عنه.

تزييف التاريخ
* هناك من يقول لماذا نحمّل الحكام دائما المسؤولية عن تزييف التاريخ على مر العصور؟، بالرغم من وجود مؤرخين يخضعون لأهوائهم وتياراتهم الفكرية أو يتأثرون بموقفهم من أشخاص وتيارات أخرى، كما أن هناك من يزور التاريخ ليجعل الأجيال ترى الحقائق من وجهة نظر واحدة فقط.

** اتهام الحكام بالمسؤولية فيه احجاف بحق هؤلاء الحكام، لأنه من النادر أن تجدين حاكمًا يُحسن التفكير والتحليل والكتابة، إذن المسؤولية تقع على الجوقة أو الطبقة المهيمنة على المجتمع والتي تحيط بالحاكم، فهي التي تحدد ما يجب ان يُكتب وما الذي يجب أن يصل إلى العقول، وهي التي تساهم في تشكيل الوعي الفردي والجماعي وتوجيه المجاميع البشرية باتجاه محدد، ربما للتسليم بهذا الواقع وعبادة المظاهر الشكلية والتقاليد التي يفرضها، أو أحيانا ـ وهذا في أحيان نادرة ـ التمرد على هذا الواقع.

ولكن للأسف في حال غياب الديمقراطية والحرية والوعي الصحيح، فإن الطرفان؛ سواء الطرف المهيمن أو الطرف المتمرد عليه، يفقدان الصفة الأساسية وهي العقلانية والتفكير الهادئ العلمي، وذلك لأن الطرف الأول (المهيمن) لا يملك الوقت لإضاعته أو التسلي بهذه المسألة التي يعتبرها خارج اهتماماته، لأنه لديه اهتمامات أخرى، أما الطرف الآخر فلا يملك الوقت من أجل التعرف الدقيق والهادئ والموضوعي.

لذلك فإن العصر الحديث، بما وفره من شكل ديمقراطي وحرية، هو يعتبر المناخ الأنسب لتشكل الحقيقة وتشكل الوعي، والوصول إلى الحقائق بشكل أفضل، رغم أنه يمكن الحديث عن كثير من محاولات الإنحراف والتزوير والتحيز والانتهازية في كثير من الجوانب.

الوصول للحقيقة
* إذن؛ كيف نقرأ التاريخ بعد أن اكتشفنا زيف بعضه؟، وكيف يمكن الوصول إلى الحقيقة التاريخية في ظل هذا الكم من التزوير والتزييف؟، وكيف سترى الأجيال القادمة ما حدث؟

** التجربة الممارسة الواقعية هي كما قال زعيم الإصلاح الصيني، دنج شياو بنج، عام 1978م، والذي بدأ مسيرة الإصلاح بعد حوالي نصف قرن من إقفال العقول على فكر متحجر، وإن كان هذا الفكر ـ وهو فكر ماو تسي تونج ـ كان يسمى يومًا بأنه فكر ثوري وتقدمي، قال إن الفكر هو المصدر الأول للحقيقة، وهو بذلك يقلب الطاولة على العقيدة الماركسية التي توصف بالعقيدة المادية، في حين أن الفكر هو شئ من البنية الفوقية أو المثاليات، وأكد دنج شياو بنج أن الواقع أيضا يشكل مصدرًا للحقيقة، وهو يقصد بذلك فهم الواقع وقراءته وتحليله والتفريق بين الصحيح والخاطئ.

* هل نستطيع القول إن التاريخ قد يصحح نفسه، فنحن شخصيًا قد عايشنا تغييرات على تناول حقائق تاريخية من وقتٍ لآخر، أم نحتاج إلى تدقيق وإعادة كتابة وافية للتاريخ على مرّ الزمان؟، بالرغم من أنه من الصعوبة بمكان تدقيق التاريخ على مر الزمن.

** التاريخ هو موضوع يُكتب، ويُنظر فيه، ويُقرأ، ويُفسر، لكن الناس هم الذي يستطيعون أن يعدلوا، ولذلك فإن التاريخ بشكل عام ليس من موضوعات النخبة المتعالية، وإنما هو خبز الجماهير والعامة، طبعا لا بد من قيادة فكرية وطلائعية لهذا التوجه أو التيار، على أن تخرج من المثقفين، ولكن بشرط أن يخرج المثقفون أنفسهم من هذا المنبع الأرضي الجماهيري الحي، وليس من الفكر الموجود في بروج عاجية.

تشويه التاريخ
* إذن؛ هل ساهمنا بشكل ما في تشويه التاريخ، بجهلنا أو تقاعسنا عن قراءته أو عدم قراءته من مصادر متعددة؟

** يجب أن تكون جميع المسائل، ليس فقط التاريخية، موضع احتكاك، فمن الاحتكاك تنشأ الحقيقة، ولذلك فإن التاريخ بالذات هو من أكثر المواضيع الفكرية التي هي بحاجة إلى الاحتكاك، ولذلك أنا أقول إنه في سوريا ـ على سبيل المثال ـ 460 مركز ثقافي قبل عقد أو عقدين، ولكنها تصفر فيها الريح، فنادرًا ما نسمع عن مناسبة جدية تُعقَد فيها، ربما كانت ندوة الثلاثاء الاقتصادية التي كنا نديرها كجمعية العلوم الاقتصادية في المركز الثقافي في دمشق، هو المنبر الوحيد في سوريا الذي كان بابه مفتوحًا لاستقبال أصحاب الفكر، وكان كلٌ منهم يدلي بدلوه ضمن الحدود المتاحة بالطبع، ومع ذلك، فإن كثيرين قد دفعوا الثمن نتيجة بعض الآراء.

لذلك رأينا في المدارس والجامعات والمجتمع المدني وعلى جميع المستويات، سنندهش من وجود وجهات نظر كثيرة جدا ومتضاربة حتى الحد الأقصى، حول مسألة بسيطة أو حتى وطنية عامة أو خاصة، وهذا صحي وموضوعي ويجب ان يكون، ولكن لو بقى الباب مفتوحًا كي يستوعب كل هذه الآراء، لجرى القضاء على التطرف والمغالاة، وجى التوصل أكثر إلى الحقيقة الموضوعية.

جزء من المشكلة
* لو تحدثنا هنا عن الغرب كنموذج، فنحن نتمتع بقدر كبير من الحريات أكثر من مناطق أخرى بالعالم، لكن لا أرى هنا أيضا اهتمامًا حقيقيًا بالحركة الثقافية، فقلّما يجتمع الناس في ندوة فكرية تأخذ موضوعًا وتناقشه على محمل الجد، على الأكثر نجد 50 شخصًا بالكاد، ألا نشارك نحن أيضا في هذا التغييب والتشويه في تاريخنا؟، ألسنا نحن أيضا جزءًا من هذه المشكلة؟

** فيما يخص القضايا الفكرية وفي ظل هذا الانتشار الواسع في وسائل التواصل الاجتماعي، فإن هناك فرص كثيرة كي يجتمع الناس عبر القارات، في سياق آخر.. فقد فاجئني ذات يوم وأنا أتابع بعض الحوارات، أن فتاة تلبس حجابًا ويبدو أنها ليست ناشزة، بل هي واعية جدا، ومن خلال كتابتها لمنشور صغير تبدو كأنها متحررة وتفكر بعقل ومنطق، وبالرغم من ذلك فقد أدهشني أن من علّقوا على هذه الأسطر القليلة في منشورها قد زادوا عن 60 ألفًا، فلنا أن نتصور أن في الندوات يوجد 50 شخصًا، لكن حول هذا المنشور البسيط تجمع الآلاف!، ومعنى ذلك أن هناك قاعدة اجتماعية واسعة وهناك متابعة، ولكن العقل العام خلال العقود الأخيرة قد جرى تضليله وتقييده من التفكير بطريقة حرة.

* ومن يقف وراء هذا التغييب والتضليل؟

** المصالح قبل كل شئ، ورغم أنها تتغلف وتطمس تحت أستار أيديولوجية وفكرية ودينية وسياسية واجتماعية وقبلية، إلا أن هذه الأغلفة في النهاية تغطي المصالح التي لا تسمح بالانطلاق أو التحرر خارج أسوار العقل المغلق.

قراءة التاريخ
* كيف يمكن للباحث أن يقرأ التاريخ جيدًا، وأن يميّز بين مصادر التاريخ الحقيقية والمزيفة عند قراءته للتاريخ؟

** نأتي إلى مصدر رئيسي مكتوب هي الكتب التي تظهر، إما في دور النشر العام، ومن بينها الجرائد، والآن يُضاف إليها ما يصدر عبر الشاشات والغذاعات وما إلى ذلك، ثم ما ينشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن أيضا هناك وسائل تقليدية غير حديثة، مثل ما يُقال في الكتب الدعوية والخطب الدينية في أماكن العبادة، عند جميع الطوائف وليس عند طائفة واحدة أو دين واحد.

وكذلك هناك مصادر تقليدية أخرى، مثل الأيديولوجيات القومجية، وليس القومية.. ربما لأن القومية تحمل معنى تقدمي، وكذلك الأعراف والتقاليد والقبلية والعشائرية، ففي الستينات.. توفي صديقنا بو علي ياسين في عز شبابه وفي مطلع تفوقه الفكري، حيث أصدر كتابًا صغيرًا في بدايته قبل أن يصبح لاحقًا من أهم الكتب على رفوف مكتبات الفكري العربي، عنوانه “الثالوث المحرم: الدين والسياسة والجنس”، علمًا بأن هذه الموضوعات هي من أهم الموضوعات في حياة الفرد الخاصة والعامة، وبالرغم من ذلك فإن هذا الثالوث محرم!، محرم في المدارس والمنازل والأماكن الدينية والأيديولوجيات العامة وفي كل مكان.

لذلك فإن العقل لا يستطيع في إطار هذه الأسوار الحديدية أن يتطور أو أن ينضج، بل يبقى محبوسًا مثل أقدام الفتيات الصينيات، كما كان الأمر في التقاليد السابقة حيث كانت الفتاة وهي صغيرة يضعون قدمها في قالب حديدي حتى لا تكبر!، لأن هذا كان معيارًا من معايير الجمال عندهم، كذلك العقول عندنا الآن توضع في قالب حديدي حتى لا يخرج عنه، ورغم أن الله سبحانه وتعالى وهب كل إنسان 14 مليون خلية في عقله، إلا أننا نختلف عن بعضنا البعض في استخدام هذه الخلايا، فمنا من يستخدم 1%، ومنا من يستخدم 10%، والآن وجد العلم أن العباقرة يستخدمون حوالي 15% فقط من خلاياهم الدماغية.

ثم المسألة الأهم؛ في أيّ اتجاه نستخدم هذه الخلايا؟، فالبعض يستخدمها في الاتجاه السلبي أو الخاطئ والمدمر، والبعض يستخدمها في الاتجاه الصحيح، وهذه هي المشكلة، لذا لا بد من العناية والحرية الحقيقية المسؤولة، وليست الحرية المؤطرة، فالحرية المسؤولة هي التي تفتح الأبواب على مصرعيها أمام العقول، فالآن وصل البشر إلى المريخ، قديما كان الحديث عن بلد آخر نائي كأنه حديثًا عن سحر عجيب، أما الآن فقد تطور العالم وتقدم العلم.

نسبة تزييف التواريخ
* هل التاريخ العربي هو المزوّر وحده، أم أن أيضا تاريخ أوروبا تعرض بدوره لمثل هذا التزوير والتزييف أيضا؟

** قلت منذ البداية أن كل التواريخ تتعرض إلى الانحياز والتشويه والتزييف، ولكن عندما تتوفر الحرية فيصبح من الأسهل فضح هذا الانحياز والتزوير، والاقتراب أكثر من الحقيقة، فخلال المظاهرات الأخيرة في عهد ترامب تم إسقاط تماثيل الرموز التاريخية التي كانت منصوبة في الشوارع، وأشبه بالمقدسات في أمريكا.

إذن فالتزوير موجود في كل التواريخ، ولكن بنسبة مختلفة بين مكان وآخر، الآن في أوروبا وأمريكا يمكنك الحديث عن كل شئ، حتى عن الله (عز وجل) والأنبياء، لكن لا يمكن قول أيّ كلمة عن الصهيونية أو السامية، فالقانون يُعاقب على ذلك، علمًا بأن الجرائم التي ارتكبتها الصهيونية تقارب الجرائم النازية.

* خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة، لاحظنا وجود تغيير كبير في ردود الأفعال على مستوى عالمي، برأيك.. لماذا هذا التغيّر في القراءة والتعاطي مع هذه الأزمة هذه المرة؟

** ببالمصادفة خلال الأمس، شاهدت على قناة RT العربية، لقاء مع أحد الصحفيين الإسرائيليين المشهورين، وهو جدعون ليفي، وهو يتبنى القضية الفلطسنية، ويتهم إسرائيل بنفس الاتهامات التي تتهم بها إسرائيل الفلسطينيين، وبعده تماما كان لقاء مع إيدي كوهين، وهو يمثل وجهة نظر نتنياهو، بل إنه أكثر تعصبًا وتطرفًا من نتنياهو نفسه، هذان الشخصان يعيشان معا في نفس المجتمع، رغم تعارض رأيهما.

خلط خاطيء
* الناس دائما ما تخلط بين اليهودية كديانة والصهيونية كحركة، وبالتالي هم لا يفرقون عند التعامل مع كلا الفريقين، فهل هناك جهل في هذا الجانب يستوجب علينا معرفة التاريخ كي نحسن التعامل معه؟

** بالتأكيد، فعبر التاريخ بأكمله، ولنقل منذ بدء اليهودية وحتى القرن العشرين، كان أفضل مجتمع أو نظام احتوى اليهود وعاملهم بإنسانية كاملة هي المجتمعات العربية الإسلامية، إذ كانت المجتمعات الأوروبية نفسها معادية وعنصرية ضد اليهود، لأسباب أيديولوجية أولًا، وأسباب موضوعية أحيانا كاختصاص اليهود في بعض الممارسات التي كانت تعاني منها الطبقة الأوروبية الفقيرة من غير اليهود كأمور الربا وغيرها، لذلك عندما خرج العرب من أسبانيا فإن اليهود الذي كانوا يعيشون في ترف وبحقوق كاملة، هاجروا مع العرب من أسبانيا، خوفًا من المتطرفين الذين طردوا العرب منها.

لذلك، ليس هناك مشكلة مع اليهود أنفسهم، بل يمكن القول إنه بسبب ظروف الشتات التي عاشها اليهود في الخارج، فقد نشأت لديهم دوافع داخلية أكبر من أجل إبراز قدرات متميزة في العلم والفن وغيرها، وقبل أن تقوم الصهيونية، كان اليهود يعيشون داخل كل المجتمعات العربية بحقوق كاملة، لكن مع نشأة الصهيونية جعلت اليهود منبذوين، وحتى الغرب نظّف مجتمعاته منهم، وصار اليهود الموجودين في المجتمعات العربية معبأين بالاتجاه الصهيوني العنصري، ومن هنا نشأت المشكلة معهم.

تزوير التاريخ المعاصر
* أشرت إلى التاريخ المعاصر؛ فهل أصبح من الصعب بمكان تزوير التاريخ المعاصر، لا سيّما في ظل انتشار وسائل التوثيق وعرض وجهات النظر؟، ومتى يمكن التاريخ الحديث صالحًا للتدريس في مدارسنا؟

** في بلادنا، جرى إهمال إلى درجة كبيرة للتاريخ، ففي إحدى الندوات سابقًا في المركز الثقافي، قلت إنه بالصدفة قد وقع بين يدي كتابًا كان يُدرس للصف الخامس الابتدائي، هذا الكتاب وربما كان عمره 70 سنة أو أكثر، فقرأت الكتاب بشغف كبير جدا كما لو أنه من أفضل الكتب المعاصرة، وذلك لأنه يفوق حاليا كل الكتب التاريخية التي يتم تدريسها على المستوى الجامعي.

إذن هناك إهمال كبير فيما يخص تدريس التاريخ، وانحصر التاريخ في تدريس المعلومات التي تمجد الذات الشخصية لفلان وعلان، فيما يتم طمس المعلومات الحقيقية، والواقع الحقيقي الذي تعيشه الجماهير والأمة بشكل عام، ولذلك كان درجات تصنيف تعليمنا على سلم الأمم، تتراجع يومًا بعد آخر، حتى أصبحنا للأسف الشديد خارج التاريخ والجغرافيا الآن.

إذن هناك إهمال للتاريخ، ويجب علينا العودة لكتابته وتدوينه، وفي الختام.. أودّ أن أؤكد على أن التاريخ لا يُكتب بأوامر أو بقرار، فهنالك لجان شُكلت لكتابة التاريخ بقرار من رئيس دولة ما، فما كان من الرئيس الآخر إلا ان أصدر قرارًا آخر بتشكيل لجنة أخرى لكتابة التاريخ، وكل لجنة عملت على وضع الرئيس الذي عيّنها كأنه نبي من الأنبياء.

* هل نستطيع أن نطمئن اليوم بأن نسبة التزوير أو التشويه في تاريخنا اليوم أقل بسبب انتشار السوشيال ميديا ووسائل النشر والتوثيق؟

** هنالك أمران؛ التوثيق الدقيق، حيث أن الأحداث التي تحدث باستمرار تكون موثقة عبر كمية هائلة من الوثائق والمصادر، وهناك على الجانب الآخر، التحيز الشديد، الذي يريد التأثير على الوعي العام والخاص.

* في الختام؛ نشكرك جزيل الشكر، ونختم حديثنا على وعد باللقاء مجددًا لاستكمال ما بدأناه من محاور حول التاريخ.

تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى

اشترك مجانا في القائمة البريدية ليصلك كل جديد

نحترم خصوصية المشتركين