الراديو

الفقه الإسلامي في خدمة المجتمع.. أزمة كورونا من منظور ديني‎

فضيلة الدكتور "موفق الغلاييني" في أول إطلالة عبر راديو صوت العرب من أمريكا

أجرى الحوار: ليلى الحسيني ــ أعده للنشر: أحمد الغـر

في حلقة جديدة عبر أثير راديو “صوت العرب من أمريكا”، تناولت الإعلامية “ليلى الحسيني” موضوع الفقه الإسلامي في خدمة المجتمع خلال الأزمات، وذلك في لقاء خاص مع فضيلة الدكتور “موفق الغلاييني”، إمام المركز الإسلامي بمدينة Grand Blanc بولاية ميشيجان، في أول إطلالة لفضيلته عبر راديو صوت العرب من أمريكا على مستمعينا بالولايات المتحدة.

الدكتور “موفق الغلاييني” يتمتع بسيرة ذاتية ثريّة كعالم جليل في الفقه الإسلامي، فهو حاصل على بكالوريوس في الشريعة الإسلامية من جامعة دمشق، ودبلوم التأهيل التربوي من الجامعة ذاتها، وحاصل على ماجستير في الإعلام الإسلامي من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، كما حصل على الدكتوراه في الفقه وأصوله من الجامعة الأمريكية المفتوحة بواشنطن، وهو عضو اللجنة الدائمة للإفتاء التابعة لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا.

ناقشت الحلقة؛ مقاصد الشريعة الإسلامية في حفظ النفس، وإعلاء قيمة الإنسان وسلامته وأمنه، في ظل التهديد الذي يمثله فيروس كورونا للبشرية، وكيف أسهمت تعاليم الإسلام في ترسيخ ثقافة النظافة والتكافل والتراحم خلال هذه الأزمات، والبرنامج برعاية كريمة من مؤسسة الحياة للإغاثة والتنمية.

مقاصد حفظ النفس
* كشفت أزمة تفشى فيروس كورونا الكثير من الجوانب الأخلاقية والمعرفية والحضارية التى تعاملت بها الدول والحكومات والأفراد مع الأزمة، ومما لا شك فيه أن الأبعاد الحضارية والمعرفية تتحكم بشكل كبير فى ردود الأفعال، ويظهر هذا جليًا فى الأزمات والنوازل، وعبّرت في جزئية منها عن الأزمة الروحية والأخلاقية التى يعيشها العالم.

فضيلة الدكتور “موفق الغلاييني”؛ هل لك أن تبسط لمستمعينا العنوان العريض للحلقة، وهو “مقاصد الشريعة في حفظ النفس، وأولوية ذلك”؟

** في الحقيقة يسمونها حفظ الضروريات الخمس، ولعلها أيضًا لها قاسم مشترك مع العبادات الأخرى، وهى 5 أمور: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، ونركز هنا على قضية حفظ النفس أو الروح أو الحياة، فهذا مقصد أساسي في الإسلام وكذلك باقي الديانات السماوية.

فالإنسان بنيان الله في الأرض، وملعون من هدم بنيانه، وذات يوم وقف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمام الكعبة فقال: “ما أعظمك وأعظم حرمتك، ولكن دم المسلم أعظم حرمة منكِ”، وقال (صلى الله عليه وسلم) : “لا يَزَالُ العبدُ في فَسْحَةٍ من دِينِه ما لم يُصِبْ دَمًا حرامًا”، كما قال أيضًا: “المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده”.

فالمسلم لا يؤذي غيره بأي شكل من الأشكال، لأنه مسالم، وحتى في فريضة الحج التي أعتبرها دورة تدريبية للمسلم على السلام والتسامح، نجد أن الحاج لا يؤذي حيوانًا أو نباتًا، وبالأحرى طبعًا لا يؤذي إنسانًا، فيرجع الحاج وفي ذهنه أنه سيُحاسَب على تصرفه مع كل مخلوقٍ حيّ.

الإسلام والنظافة
* أطلت أزمة كورونا الأخيرة بظلالها الصحية والاقتصادية والمجتمعية، فكيف تعاطى الإسلام مع قضية النظافة من أجل الحفاظ على صحة الإنسان، خاصةً في مواجهة الأوبئة والأمراض؟

** تكلمنا في مسألة حفظ الحياة بشكل عام، ولكن من المعروف أن كل ما يؤدي إلى إهدار الحياة أو إضعافها أو فقدانها فقد حَرّمه الإسلام، وعلى صعيد الفرد؛ فقد أمر الإسلام الفرد بالنظافة كي يحافظ على حياته، فمثلًا نجد من الناحية الفقهية في الصلاة، فإن المسلم مُطالب بـ3 طهارات، طهارة الجسد (بالوضوء وما يتوجبه)، وطهارة المكان (المكان الذي سيتم فيه الصلاة)، وطهارة الثوب، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : “طَهِّرُوا أَفْنِيَتَكُمْ”.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحمامات أو بيوت الخلاء قد ظهرت في الأندلس، وأخذها الأوروبيون عن المسلمين، وهذه الأشياء من متطلبات الطهارة والنظافة، ولا يمكننا في هذه العُجالة أن ندخل في كل التفاصيل الفقهية، ولكن لو أخذنا مثالًا الوضوء؛ أركانه خمسة، وكما جاء في سورة المائدة: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ “.

ونجد من الفريضة على المسلم غسل هذه الأعضاء 5 مرات يوميًا، إلى جانب وجود أغسال واجبة يعرفها المسلمون، بحيث يبقى المسلم محافظًا على نظافته بشكل كامل، كما نجد تنظيف الأسنان بالسواك، أو حتى بمعجون الأسنان والذي أثبتت بعض الأبحاث أن بعض مواده مأخوذة من السواك. والأمثلة كثيرة حقيقةً في اعتناء الإسلام بالنظافة.

مبدأ التكافل الإسلامي
* الجانب الأخلاقي والروحي في أزمة كورونا لم يتحدث فيه الكثيرون، الآن نحاول أن نركز على هذا الجانب، وقد رأينا في المجتمعات الغربية والمتحضرة مؤخرًا تصرفات مستهجنة في ظل الذعر والرعب من الوباء. فحدثنا قليلًا عن مبادئ التكافل التي أسسها الإسلام في تفسير ثقافة التراحم خلال هذه الأزمات؟

** في الحقيقة كل أمر في الإسلام له علاقة بالعقيدة، وهذه ميزة عظيمة للحضارة الإسلامية، فمثلًا بالنسبة لموضوع النظافة الذي كنا نتحدث فيه، أنا كمسلم يجب عليّ في عقيدتي أن كون نظيفًا، وإلا تكون صلاتي باطلة وغير مقبولة، وهذه يسميهّا الإمام أبو حامد الغزالي “النظافة الظاهرية”، ولكن هناك نظافة أخرى داخلية، وهى نظافة الروح، بأن أكون كإنسان عاملًا بناءً في أسرتي وفي مجتمعي، وأن تكون علاقاتي الأسرية والاجتماعية سليمة وفعالة ومفيدة.

وأنا شخصيًا وأنا أتفكر في أزمة الوباء الأخيرة.. أرى أن الناس قد باتوا يفكرون في بعضهم البعض، وباتوا يسألون على بعضهم البعض، ووجدنا في دول أوروبية هناك حالات فقر ومرض وعوز تعاني منها هذه البلدان رغم تقدمها.

كما وجدنا شعوبًا تفكر في شعوب أخرى، وفي ألمانيا وجدنا بعض المدن تسمح برفع الأذان في مكبرات الصوت، وهنا في ميشيجان أحد القساوسة اتصل بأحد الأئمة يطلب منه قائلًا “ادعوا لنا يا مسلمين”، وفي فلسطين هناك رجل يهودي عنده مطعم، قام بتشغيل القرآن الكريم في مطعمه. فالبلاء قرّب بين الناس.

من منظور ديني
* كيف ترى الجدل القائم بين من يتناولون أزمة كورونا من منظور ديني، ومن يرون أنه أمر دنيوي بحت؟، وهل وباء كورونا عقاب إلهي نتيجة الظلم والمعاصي والابتعاد عن الله؟

** في صلاتنا، نبدأ كل ركعة بسورة الفاتحة التي تبدأ بـ “الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”، فالله سبحانه وتعالى هو رب كل الناس، ومن المؤسف أن بعض الناس قد نسوا ذلك، وبدأنا نرى انتشار الإلحاد، حتى في مجتمعنا الأمريكي، ونحن في مؤتمرنا الذي كان من المفترض أن يُعقد الأسبوع الماضي، كنا سنتناول موضوع الإلحاد وكيفية معالجة هذه الظاهرة.

وها نحن الآن نرى أن الحياة توقفت في الدنيا بأكملها، بسبب ماذا؟، بسبب مخلوق ضعيف لا يُرى بالعين المجردة، وهو في النهاية مخلوق من مخلوقات الله، فكل الأديان تقول إن الله هو الرب المدبر المهيمن الرافع الخافض المعطي المانع سبحانه وتعالى، وأنا أقول ـ والله أعلم ـ أن هذا المرض تذكير للناس بقوة الله العليا.

إنذار وابتلاء وتذكير
* د. موفق؛ تحدث البعض، في بداية ظهور فيروس كورونا في الصين، عن أن ما حدث كان عقابًا لها على ظلمها للمسلمين، وتكرر الأمر عندما ضرب الفيروس دولًا كبرى، لكن سرعان ما تطور الأمر ووصل الفيروس للعالم كله، فكيف ترى هذه الأقاويل، دكتور؟

** تعلمنا من مشايخنا، أن الرحمة تَخُص والبلاء يَعمّ، فإذا أراد الله أن يَخُص عبدًا أو مجموعة من عباده بالرحمة والفضل فيخصهم، ولكن عندما ينزل البلاء فإنه يعمّ. ولو تحدثنا عن انتشار المنكر فلا ننسى أننا أهملنا إسداء النصح، وسكتنا عن الظلم والاضطهاد ونُصرة المظلومين والضعفاء، والله ـ عزوجل ـ يقول: “وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا”.

فما نزل بلاء إلا بذنب ولا رُفِع إلا بتوبة، والله سبحانه وتعالى يقول: “وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ”، فسبحان الله.. صالحون لأنفسهم ومصلحون لغيرهم، فنحن قد ابتعدنا كثيرًا، وأصبح حتى العلماء يخافون من قول كلمة الحق، وابتعدوا عن مشكلات المجتمع الحقيقية. فهذا الأمر أيضًا فيه إنذار لنا، يقول تعالي: “وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم”. فالله غنيٌ عن العالمين وليس بينه وبين أحد نسبًا.

فنحن نقول أننا عرب، وأننا مميزون لأن القرآن الكريم نزل بالعربية، ولأن النبي “صلى الله عليه وسلم” منا، وعلينا أن نتذكر أنه لما قال قومٌ “نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ”، رد الله عليهم: “فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ”. وأنا أقول لإخوننا العرب أنتم بشر ممن خلق، وليس بينكم وبين الله نسبًا، فإذا عصيتم الله سبحانه وتعالى فهناك العقوبات.

وما يحدث الآن نقول أنه تذكير وتنبيه للناس لعلهم يرجعون، ويقول تعالى :(وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)، فلايكون رد فعل من يصابون بالفقر أو المرض أن ينكفئوا على وجوههم أو يولوا على أدبارهم، وإنما قال الله تعالى (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)، فما هي صفات هؤلاء الصابرين، قال تعالى (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، فهم يتذكرون الله، ويقولون “إنا لله” أي نحن كلنا مملوكون لله، ولا نستطيع أن نفر من قدر الله، “وإن إليه راجعون” أي أن مرجعنا كلنا إلى الله يوم القيامة.

وهؤلاء الصابرون جزاؤهم عند ربهم كما قال تعالى (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)، فاللهم اجعلنا من المهتدين المتعظين بهذه النكبة كي نرجع إلى الله.

بين السماء والأرض
* هناك مقولة شهيرة منسوبة لرئيس وزارء إيطاليا خلال أزمة كورونا، حيث قال: “انتهت حلول الأرض، والأمر متروك للسماء”، بينما هناك قول منسوب لأكاديمي عربي يقول فيه: “إن ما سينقذنا من كورونا هو ما نقوم به على الأرض، وليس ما يأتي من السماء”، فكيف ترى هاتين المقولتين من وجهة نظرك؟

** أشكرك على هذا السؤال الهام، لأنه سيوضح لنا أمر مهم جدًا في هذه الظروف التي نمر بها، أولًا نحن ـ كمسلمين ـ مأمورون بالأخذ بالأسباب، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) : “ما أنزل الله داءً، إلا وأنزل له شفاء، ألا يا عباد الله فتداووا”، وتادووا هنا المقصود بها أن العلماء منكم يبحثون عن دواء لهذا المرض، والمرضى عليهم أن يأخذوا هذا الدواء.

إذا فلا بد أن نأخذ بالأسباب، ومن المعلوم أن العلماء الذين طوروا معظم علوم الكيمياء والفيزياء وغيرها هم العلماء المسلمون، أخذوا علوم اليونان وترجموها طوروها، وهذا معروف، ويمكن قراءة كتاب “تاريخ التراث العربي” للدكتور فؤاد سزكين، وهو من أصل تركي وكان يقيم في ألمانيا، وكتب العديد من المجلدات في هذا الموضوع “ماذا قدم المسلمون للإنسانية من علوم؟” لفنحن طورنا الكيمياء والفيزياء، وأوجدنا الأدوية، وكان منا أطباء جراحون وآخرون يشخصون الأمراض، وهذا أخذ بالأسباب.

إذن علينا أن نأخذ أولًا بالأسباب، ولكن بعد أن نأخذ بالأسباب نرفع أيدينا بالدعاء لله عز وجل ونقول “يارب.. اللهم هذا دوائي وعليك شفائي” فأنت يارب أمرتني بالأخذ بالأسباب، وانا أخذت الدواء الذي كتبه لي الطبيب، لكن أنت بقدرتك تتم شفائي، فليس هناك تعارض بين الأخذ بالأسباب والدعاء، وهذا قد أشار إليه أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم، عندما قال، كما جاء في القرآن الكريم: “وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ”.

وهذا الأمر يلخصه حديث “اعقلها وتوكل”؛ فقد روى الترمذي عن أنس بن مالك، أن “رجلاً جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ومعه ناقته، فقال: أعقلها وأتوكل، أم أتركها وأتوكل؟، فقال له النبي: اعقلها وتوكل”. والمقصود أن يأخذ الرجل بالأسباب.

دروس وعِبَر
* رغم الجدل القائم حول تناول كورونا من منظور ديني، إلا أن ذلك لا ينفي أن هناك دروس كثيرة يجب أن يتوقف عندها البشر تفيد بأننا نحتاج إلى تغيير حقيقي، وأنا ما بعد كورونا يجب أن يختلف عما قبله، فدعنا نتوقف مع فضيلتك حول أهم هذه الدروس من منظور ديني؟

** في تصوري أن أول درس هو الرجوع إلى الله، كما قال الله سبحانه وتعالى: “فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ”، فمع الأسف نحن تعودنا على عادات وأطر وبعضها ليس من حقيقة الدين، لذا فقد حان الوقت لصحوة، كي نعود إلى أصول الدين ونترك الخرافات والبدع. سأعطي مثالًا.. بعضنا، سواء من العرب أو العجم، يقوم بتحفيظ أبنائه القرآن الكريم، وهم في سن صغيرة، وطبعًا هذا يوم القيامة سيعود بالنفع على الولد والأسرة بأكملها.

لكن أنا قابلت شخصًا هنا في أمريكا أخبرني أن ابنه حافظ لكتاب الله، طيب جميل، سألته: هل هو يعرف معاني ما يحفظه من آيات؟، فقال: لا!، فتخيلي أن الولد عندما يصل إلى سن المراهقة ينحرف، فقد باتت ظاهرة أن نحفظ ونتغنى بالقرآن ونجيد التلاوة، لكن لا أحد يتدبر في المعاني، في حين أن هناك من آمن لمجرد فهمه لأية واحدة. فنحن في حاجة ماسّة كي نعود إلى تعاليم الدين الأساسية.

الإسلام وحفظ النفس
* مع انتشار وباء كورونا؛ تم منع الطواف وتم تعليق العمرة وكذلك إغلاق المساجد وتعليق صلاة الجمعة، وإقرار الصلاة في المنازل، ولكن هذه القرارات قوبلت بردود أفعال رافضة لذلك، حتى أن هناك من خالف هذه القرارات وصلى على أبواب المساجد. فكيف يمكن لنا أن نوضح، في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية في حفظ النفس، هذا الموضوع الهام، الذي هناك جدل كبير حوله؟

** الحقيقة أن مرد هذا الأمر إلى عدم إدراك الكثير من المسلمين لمفاهيم أساسية في الدين، ومنها مفهوم الضرورة، والذي هو أحد القواعد الشرعية الأساسية، ويُعبر عنها بحديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم): “لا ضرر ولا ضرار”، ومن تفريعات هذه القاعدة الشريعة أن “دفع الضرر مُقدّم على جلب المصلحة”.

والآن قد ثبت من خلال توجيهات الأطباء أن قرب الناس من بعضهم البعض مدعاة لانتقال المرض، فأي تجمعات ممكن تؤدي إلى انتقال المرض، ومنها اجتماع الناس بالمساجد، ولذلك فإن مجمع فقهاء الشريعة في أمريكا أصدر فتوى بأنه على المسلمين أن يلتزموا بتوجيهات مراكز مكافحة الأمراض المعدية والوقاية منها (CDC) بخصوص عدم التجمع، وقد استجاب الأئمة، وأغلقوا المساجد منعًا للتجمعات.

ونحن نعلم عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أن الإنسان إذا مرض، وكان من عادته أن يذهب إلى المسجد، ولكن أقعده المرض في منزله، فإن الصلاة في منزله تكون كالصلاة في مسجده، لأنه عاجز، ولذلك أنا أُبشّر المسلمين بأن من اعتاد أن يصلي في المسجد وصلى في منزله دفعًا للضرر، فإن ثوابه كامل، إن شاء الله.

المُصافحة والوفاة
* د. موفق؛ هناك أيضًا من يستنكر عدم المصافحة، حيث ينظر إلى من لا يصافح بأنه يخالف تعاليم الدين وعادات المجتمع، ماذا نقول له في هذا السياق؟

** كل المسلمين ـ بفضل الله ـ يحملون في صدورهم القناعة الكاملة بالقرآن الكريم، فربّ الناس يقول: “وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ”، فهل نصافح بعضنا البعض ونُلقي بأنفسنا إلى التهلكة؟!، إذن لابد أن نتجنب المصافحة والعناق الآن، وأن نلتزم بالتعليمات الاحترازية في هذا الصدد.

* وكيف نتعامل مع من توفى بسبب كورونا فيما يخص الغُسل والجنازة؟

** بحثنا هذا الموضوع في اللجنة الدائمة لمجمع فقهاء الشريعة في أمريكا، ووصلنا إلى ما يلي: الغُسل والكفن وصلاة الجنازة جميعها فرض كفاية، إذا قام بها البعض سقط عن الباقي، والمراكز الإسلامية نوصيها بأن تُحضر ثياب وقائية كاملة لمن يقوم بالتغسيل، ويكتفى بصب الماء على المتوفى، حتى ولو اكتفينا فقط بصب الماء والمتوفى مغطى بقماش عليه.

ويكتفى بمرة واحدة دون التثليث، أي بالحد الأدنى، ويُصلِي عليه ولو 3 أو 4 أشخاص، ويذهبون به إلى المقبرة، والباقي يدعون له من منازلهم، وبذلك نكون قمنا بواجبنا، لأنه فرض كفاية.

منح في المحن
* الآن هناك ترند عالمي (ابقْ في المنزل)، فكيف توجه مستمعينا للبقاء في المنزل في إطار حفظ النفس، خاصة من لا يلتزم ويستهين بهذا الموضوع؟

** للأسف، نحن تعودنا على عادات سيئة، ولعل في هذه الأزمة ما يعيدنا إلى العادات الحسنة، فهى فرصة كي نجلس مع الأبناء، ونتابع أحوالهم ودراستهم، فرصة كي يجلس الزوج مع زوجته، فرصة لنتدارس القرآن كبارًا وصغارًا، فرصة لمراجعة عاداتنا وأفعالنا، فرب ضارة نافعة، وعلينا أن ننظر بشكل إيجابي إلى نصف الكوب الممتلئ.

الاحتكار واستغلال الأزمات
* معادن الناس تظهر في أوقات الأزمات، فماذا تقول لمن يتاجرون بالأزمات؟، ويسعون لزيادة أرباحهم على حساب احتياج الناس ويحتكرون السلع ويكتنزونها بكميات زائدة عن حاجتهم؟

** الانتهازية مُحرّمة في الإسلام، فنجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: “من احتكر فهو خاطئ”، فالاحتكار لا يجوز في الإسلام، فاستغلال ضعف وحاجة الناس لا يجوز مُطلقًا، فهناك الكثير من القواعد الفقهية التي تنفي الضرر والغرر عن المتعاملين بالبيع والشراء وما نحوهما.

والنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول في حديثه: “ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتُكم به فأتوا منه ما استطعتُم”، فأنا أوصي المسلمين وغير المسلمين بالابتعاد عن كل ما يؤذي الناس، من احتكار واستغلال وخلافه، فهذا ظلم للناس، والظلم ظلمات يوم القيامة، وفي الحديث القدسي: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا”، ولعل من أسباب هذه المصيبة التي نحن فيها.. هو الظلم.

فقه الأولويات
* د. موفق؛ تداعيات هذه الأزمة تخلق العديد من الاحتياجات الضرورية العاجلة لكثير من المتضررين، سواء صحيًا أو ماديًا، ألا يقتضي ذلك تطبيق فقه الأولويات؟، بمعنى أن نركز على تداعيات الوباء، وبالتالي توجيه جهود التبرعات والصدقات والزكاة لمساعدة المتضررين من هذا الوباء؟.

** دعينا نرجع للقرآن الكريم، في سورة التوبة، ما هى مصارف الزكاة؟، يقول تعالى: “إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ “، طبعا هناك توازن في إنفاق الزكاة، ومراعاةً للظرف الحالي، فيجوز أن نأخذ من الزكاة لنردها لهؤلاء المحتاجين الذين قد لا يجدون قوت يومهم في ظل هذا الظرف الحالي. أو للغارمين، أي الذين لا يستطيعون الوفاء بديونهم، وخاصة في ظل تبعات الأزمة الحالية.

* البعض يرى الإنغلاق على نفسه في ظل الظرف الحالي، أي الإكتفاء بنفسه وبيته وأسرته وتأجيل الصرف لحين الانتهاء من الأزمة، فهل هذا صحيح؟

** لا يصح، فـ “مَنْ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَرِئَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمْ امْرُؤٌ جَائِعٌ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى”، فالتكافل الاجتماعي مهم وضروري في الإسلام.

وقد جاءني أكثر من سؤال من أرباب العمل، هل يمكن أن نعطي زكاتنا لموظفينا، خاصةً إذا لم نستطع أن نعطيهم رواتبهم، وأصدرنا فتوى في هذا الصدد سننشرها على صفحتنا، والفتوى هى “نعم، خاصة خلال هذه الشهور”، وتأتينا أسئلة أخرى حول تقديم إخراج زكاة المال.

كلمة أخيرة
* كلمة أخيرة توجهها، د. موفق، لعموم المسلمين ولمن يتابعنا الآن من جاليتنا العربية الكريمة هنا في أمريكا والعالم، حول الدروس المستفادة من هذه الأزمة؟، قبل أن نختم بالدعاء.

** عندما نتدبر الأزمة الحالية أتذكر الآية الكريمة “وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا”، فيوم القيامة نأتي إلى الله ضعفاء، حتى أننا لا نستطيع أن نرفع صوتنا، ونحن الآن في العالم هناك ركود وخمول وتشاؤم وخوف كأننا في يوم القيامة، ما أخافه أن هذا الشعور الطيب والإيجابي الذي بدأ يظهر الآن.. أن يزول بمجرد إيجاد دواءٍ للمرض، ونعود كما كنا من قبل.

فأنا أقول لمستمعينا الكرام، بالله عليكم استمروا في خشوعكم، فالإنسان ضعيف، في أي لحظة قد يفقد ماله أو صحته، فاللهم ارفع عنا البلاء و الوباء و تَسلّط الأعداء، اللهم فَرّج عن المسلمين وغير المسلمين المظلومين، عاجلًا أو آجلًا، اللهم فَرّج عن من شُرّد ظلمًا من دياره، وأعِدهم إلى بيوتهم سالمين غانمين، اللهم أزل عنا هذا البلاء، اللهم وفقنا إلى التوبة النصوح كي ترضى عنا يا أرحم الراحمين، وتكتبنا في عبادك الصالحين، اللهم لا تعاملنا بما فعل السفهاء منا، وردنا إليك ردًا جميلًا، بمنّك وكرمك يا أرحم الراخمين.

تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى