الراديو

ماكرون والإسلام.. أزمة ديانة أم أزمة رئيس؟

أجرى الحوار: ليلى الحسيني ــ أعده للنشر: أحمد الغـر

أثار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عاصفة من الجدل بتصريحاته المسيئة للإسلام والمسلمين، فتارة يزعم أن الإسلام ديانة تعيش أزمة، وتارة أخرى يصرّ على إلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام

ولا يختلف أحد على بشاعة جرائم القتل الإرهابية التي شهدتها فرنسا، لكن لا يوجد تفسير لإصرار ماكرون وحكومته على العداء للإسلام وغض الطرف عن ممارسات الإساءة للمسلمين واستفزاز مشاعرهم من وقت لآخر بتكرار نشر الرسوم المسيئة للنبي ﷺ دون محاسبة.

وقد أثارت التطورات الأخير أسئلة هامة: هل هى أزمة ديانة أم أزمة دولة أم أزمة رئيس دولة؟، وهل المشكلة في الإسلام والمسلمين في فرنسا أم في صراع انتخابي يعيشه ماكرون مع اليمين المتطرف ضد الإسلام؟

لمناقشة هذا الموضوع؛ استضافت الإعلامية ليلى الحسينى من واشنطن الإمام الدكتور محمد بشار عرفات، مؤسس ورئيس مؤسسة التبادل والتعاون الحضاري، ورئيس مركز البشير لحوار الأديان، كما أنه محاضر في برنامج الزائر الدولي بوزارة الخارجية الأمريكية منذ عام 2005 وإلى الآن.

ومن فرنسا استضافت الباحث والمحلل السياسي طارق زياد وهبي، العضو السابق في مجلس بلدية كولومب، وهو أيضًا عضو في حزب الجمهوريين الفرنسي.

مفهوم الحرية
في بداية الحلقة، تحدث الإمام الدكتور محمد بشار عرفات عن أن الإسلام هو دين السلام والرحمة، وأن الرسول ﷺ هو رحمة للعالمين، وأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وكرّمه، وقد أتي الدين الإسلامي لحماية حقوق الإنسان والإعلاء من قيمته وتكريم وتعظيم خلق الله. لكن التسويق السلبي للنبي محمد عبر الفنون والرسوم والمحاضرات وغيرها، وكذلك لسائر الأنبياء، هو نوع من التعدي على المقدسات وتأجيج للكراهية والنزاعات.

وأضاف عرفات أن مفهوم الحرية هى أن تحترم حرية الآخر، وليس فقط أن تنادي بما هو مناسب لك فقط، فحريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الأخرين، وهذه ليست أزمة في الدين وإنما أزمة عند بعض من يسمون أنفسهم بالمتدينين، وكذلك العلمانيين، فالأديان وكذلك العلمانية الحقة تعني احترام رأي الآخر ومقدساته.

جريمة أم دفاع؟!
وحول جريمة قتل المعلم الفرنسي ومدى اعتبارها دفاع عن الإسلام ونصرة له، قال عرفات: “هذه جريمة بإمتياز، ومنصوص عليها في القرآن، فنحن مأمورون بمحاورة الآخر، وعدم التعرض للسفاهة بسفاهة، وفي قرآننا يقول المولى سبحانه وتعالى (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).

فإذا شتمني إنسان.. فعليّ أن أردّ عليه بالحسنى، وأن أتواصل معه كي أصلح وأناقش وأتكلم، كما في قوله تعالى أيضا (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)”.

وتابع: “فحتى عندما نختلف مع معتقد الآخر، فإن القرآن يقول إننا ممنوعون من تحقير ما يقدسونه حتى لا يعاملوني بشئ سئ، ولكني أيضًا أنا لا أستطيع أن أرى أن من يحتقر ديني ونبيي وأظل ساكتًا، فالقرآن أمرني بالكلام بالحسنى”.

وحول اختيار هذا المدرس لهذا النموذج وهذه الطريقة تحديدًا للتعبير عن حرية التعبير، قال عرفات: “أنا أقول مرارًا وتكرارًا للشعب الفرنسي، إنه يجب أن يكون هناك فئات تذهب وتناقش هذا الموضوع، وتشتكي للمدرسة، وترفع صوتها، وتكتب حول الأمر، فهناك أناس قد لا يحتملون هذا الأمر، وقد يحدث إخلال بالنظام العام، وعلينا مناقشة هذه الأمور قبل أن تستفحل وتصل إلى ما وصلت إليه”.

حساسية مفرطة
حول ما إذا كان هناك تقصير في الدعوة إلى الإسلام السمح في هذه البلدان، مثل فرنسا، وتقصير التعريف به وتوضيح رسالته والتعريف بنبيه، أم أن هناك إقصاء لنا في تلك البلدان، قال عرفات: “فرنسا لها وضع خاص، ففي العام الماضي كنت هناك من أجل التحضير لمؤتمر نعقده هنا في أمريكا بشكل دائم لمدة 5 أيام، تحت عنوان “نحو فهم أفضل لعالم أفضل”، وفي هذا المؤتمر يوجد يوم حول التعددية الدينية، من أجل الشرح للطلاب ما هو المشترك وما هو المختلف”.

وتابع: “في فرنسا.. وجدت حساسية مفرطة عند الحديث عن الدين، لم أعهدها في أمريكا أو حتى في هولندا أو بلجيكا، فهذه طبيعة فرنسا وشعبها، فأنا لو كنت إمامًا في فرنسا، فيجب أن يتم احترام هذه الخصوصية في فرنسا، وأن يتم تقديم الدين بطريقة يقبلها العقل الفرنسي وفقًا لثقافته، كما يجب أن نزيد من تواصلنا بالحكمة والموعظة الحسنة، سواء مع الشعب الفرنسي أو الشعوب الأخرى التي لديها حساسية حيال الدين”.

وأكمل: “الدين الإسلامي عنوانه الحكمة، قال تعالى: “‏يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ”، والقرآن الكريم يوضح لنا كيف نعامل كل صنف من الناس بحسب ما يفهمون وما يتقبلون. ومن خلال تجوالي وبرامجي في أوروبا، فإن شعوبها تختلف عن بعضها”، وتحدث عرفات عن ضرورة تهيئة الأئمة للدعوة في أوروبا، وتحديث المناهج التي يدرسونها.

نصرة الإسلام
وحول من يسئ للإسلام أكثر: من نشر هذه الرسوم، أم من ارتكب هذه الجريمة؟، أجاب الإمام الدكتور محمد بشار عرفات بالقول: “هناك خطأ من الطرفين، من جانبنا يجب علينا أن نزيد من التواصل مع كل المؤسسات، والتأكيد على أن هذه الرسوم، وغيرها من الأفعال التي تثير مشاعر المسلمين، ستسئ لنا جميعًا كمجتمع في النهاية.

والآن هناك أصوات تجرّم من يسئ للآخر، ولكننا لا نتعاون مع هؤلاء للأسف، لذا علينا أن نتعاون معهم وأن نرفع من أصواتهم، فالمسؤولية تقع على الطرفين من أجل الوصول إلى بر الأمان للجميع”.

واعتبر عرفات أن جريمة القتل تسئ للإسلام أكثر مما تنصر الإسلام، وتحدث عن مشروع تدريب الأئمة الذي يشرف عليه، وطبيعة الدراسة به، كما أوضح أن هناك جهات تحاول استفزاز المسلمين، وعلى رأسها الإعلام الذي يحاول تعزيز فكرة الإسلاموفوبيا، ونوّه إلى ضرورة تكوين التحالفات لكي نعزز التفاهم والسلم بين كل المجتمعات.

وحول الحلول الممكنة لإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح وتحقيق التعايش السلمي بين فئات المجتمع، قال عرفات: “الخميس الماضي، أنا كنت في السفارة الفرنسية والتقيت بالسفير الفرنسي من باب التواصل، وأنا أتذكر شيخي عندما كان يقول لي: الناس جميعهم فيهم الخير، فنحن مأمورون بالتواصل، ديننا يخبرنا بالدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، ونحن جميعًا نحتاج إلى ضرورة تعزيز حوارات الأديان، والتخلص من الإسلاموفوبيا، والكراهية ضد أيّ دين”.

نظرة تاريخية
في الجزء الثاني من الحلقة؛ حلّ ضيفًا على الحلقة الباحث والمحلل السياسي طارق زياد وهبي، والذي بدأ حديثه ببعض الإحصاءات عن إصابات فيروس كورونا المستجد في فرنسا وما وصلت إليه الأمور هناك بسبب الوباء، قبل أن يتطرق إلى موضوع الحلقة، حيث شكر الإعلامية ليلى الحسيني على عنوان الحلقة، والذي يعدّ عنوانًا للحوار وليس للجدل.

وأضاف أن المسلمين في فرنسا هم عنصر مهم جدًا، حتى منذ عهد الملكية، كما أن الإضافات الهامة التي تركها المسلمون في أوروبا منذ القدم لا يمكن إنكارها، وصولًا إلى عام 1905 حيث صدر قانون علمنة الدولة، والذي يمنع سيطرة أيّ حزب بعينه على زمام الأمور بالدولة، حيث تم فصل الدين عن الحكم، وجعل كل الأديان متساوية في البلاد.

كما تطرق وهبي إلى فترة الحربين العالميتين الأولى والثانية، والتي شارك فيهما بعض الجنود المسلمين، وصولًا إلى الفترة الراهنة حيث حرية التعبير وعصر التنوير والفلاسفة الفرنسيين.

ولكن المشكلة الآنية الآن هى عندما أرادت فرنسا أن تستقطب يد عاملة، فجاءت بها من مستعمراتها في أفريقيا وآسيا، والأجيال المتوالية من أبناء هؤلاء العمّال لا تزال تعيش في فرنسا، صحيح أنها “تفرنست” بالمفهوم الإداري، ولكنها ليست فرنسية بالمفهوم المدني.

قبل 1983 عندما قدم الرئيس فرانسوا ميتران، لم يكن في فرنسا سوى مسجدين، مسجد باريس الكبير ومسجد في مارسيليا، حيث لم يكن هناك اعتراف حقيقي بالمسلمين، ولكن بعد هذا التاريخ حدث انفتاح كبير.

ولعلنا هنا ننوّه إلى أن أكبر وأهم دراسة حول الإسلام الصوفي موجودة في جامعة السوربون، هذا إلى جانب عدد كبير من التراثيات الإسلامية، وهذا يُظهر إلى أي مدى هناك معرفة فرنسية بالدين الإسلامي.

أزمة مفتعلة
وحول ما إذا كانت الأزمة الحالية هى أزمة مفتعلة، وسرّ تفجر قضية الرسوم المسيئة مجددًا في هذا التوقيت، قال وهبي إن فرنسا تعتبر في أوروبا هى مصدر الانتشار الإعلامي والفلسفي والثقافي، وانتقال الرسوم المسيئة من الدنمارك إلى فرنسا هو نابع من النقد الموجود بفرنسا، بالرغم من أن الصحيفة التي نشرتها ميولها يسارية وليست يمينية، فمع قدوم الرئيس ماكرون تم كسر حدة التباين الموجودة بين اليمين واليسار.

وعلى ماكرون بالذات أن يشكر الجاليات والأقليات التي صوتت له وجاءت به، لكنه للأسف لا يستطيع الآن في ظل التأهب لانتخابات مقبلة، إلى جانب أن مستشاريه غير موفقين في تفسير خطاباته أو نصحه بالشكل الملائم، ولا سيما مستشاريه الدينيين، لكن الظاهر الآن أن ماكرون يريد أن يبحث عن صوت الناخب اليميني.

وأضاف وهبي أنه كان من المؤسف أن ماكرون قد أكد في خطابه على أنه مستمر في نشر الرسوم المسيئة، كما تجرأت إحدى الوزارات الفرنسية ونشرت الرسوم على واجهة إحدى المباني الحكومية، وهذا تحدي فاضح لمعتقدات المسلمين، وهو خطأ تام حول كيفية التحاور مع الآخر. ومن المؤسف أن ماكرون يختبئ خلف ما يسمى “حق التجديف”، وهو الحق في إهانة الذات الإلهية أو المعتقدات الدينية، وهو  أمر مباح في فرنسا.

الإساءة للأنبياء
إذا كان نشر الرسوم المسيئة للنبي يندرج تحت حرية التعبير، فلماذا توجد قوانين تجرّم معاداة السامية والعنصرية والإساءة إلى المرأة أو الإساءة إلى الملونين؟، ولماذا لا يتم تجريم الإساءة للأنبياء؟

أجاب وهبي: مع الأسف فإن التشريعات لا تشمل ذلك، وتاريخيًا فإن الرئيس اليميني ساركوزي منذ 15 عامًا تقريبًا هو الذي قام بوضع أسس لمجلس يمثل الديانة الإسلامية في فرنسا، ومن خلال هذا المجلس يمكن الدفاع عن الديانة الإسلامية مدنيًا عبر القوانيين، بعيدًا عن العقيدة والتشريع.

وحول حقيقة التخوف من زيادة أعداد المسلمين في فرنسا وأوروبا، قال إن المسلمين موجودين في فرنسا منذ القدم، ففرنسا تعرف المسلمين أكثر من باقي دول الاتحاد الأوروبي باستثناء بريطانيا، وبشكل عام فإن العالم الآن يبحث عن الطمأنينة والأمان، وعلى فرنسا الآن أن تبحث عن سبل الحوار، وعن طريقة لإيقاف “حق التجديف”.

المجتمع الفرنسي في مجمله خائف، ولكن بأي حال فإنه ليس في معظمه لديه عنصرية ضد المسلمين، وعلى العكس هناك اختلاط، فهناك 10 ملايين مسلم في فرنسا، تقريبًا ثلثهم متزوجين من غير مسلمات، وهذا يدلل على طريقة وكيفية تأقلم المسلمين في فرنسا.

حملات المقاطعة
هناك حاليا حملة مقاطعة للمنتجات الفرنسية ورفض الإساءات المتكررة لنبينا الكريم محمد ﷺ، وتعقيبًا على ذلك قال وهبي إن الشارع المسلم يريد أن يعبر عن غضبه ورأيه، ولكن هذا ليس له تأثير على المايكروإيكونومي (السياسة الاقتصادية بين الدول)، لأن العلاقات التجارية بين الدول هى عقود تمثيلية، فعندما يقول مثلا الرئيس التركي لا تشتروا البضائع الفرنسية، فمن الممكن أن يكون من الصعب التخلي عن هذه البضائع لجودتها.

فالعلاقات الدولية يقوم بها الأفراد أيضًا، وليس الأحزاب أو الحكومات فقط، وأنا أعتبر أن حرق العلم الفرنسي أو الهجوم على سفارة فرنسية أمور تخلو من الرغبة في الحوار مع فرنسا من أجل الوصول إلى حل، والمشكلة الكبرى أن هناك من يصطاد في الماء العكر، ولا سيما في تركيا.

تعليق

إقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى